الإيمان والعمل الصالح


الشيخ أبوبكر الجزائري

تأملوا ما أقول لكم! الإيمان قوة باطنية تدفع صاحبها إلى أن يسلك سلوكاً معيناً، وعلى سبيل التنظير والتمثيل: هل نصدق عبداً يقول: هو مؤمن وهو لا يصلي، يمكن نتنكر لعقولنا وقلوبنا وسنن الله في الكون؟ عبد ما يصلي ويقول: هو مؤمن، تصدقونه؟! لو آمن لما أمكنه أبداً ألا يصلي، كيف ذلك؟ بالدليل.


أعطوني شاباً مسلماً، أقول له: أسألك بالله لو عرض عليك تاج للمملكة العربية من الخليج إلى المحيط وغداً تتوج على أن تترك الصلاة تقبل أو لا؟ سيقول: لو أعطيت ملك الدنيا كلها -إن شاء الله- لا أقبل.


وأنا أقول: والله لو أعطينا مثل الدنيا سبعين مرة ما قبلناها مع ترك الصلاة، عرفتم هذه؟ والذين لا يصلون ما شأنهم؟ ماذا أعطوا؟ ما الذي أعطيناهم حتى تركوا الصلاة؟ فقط كفروا الله، ما آمنوا بما عند الله، ما آمنوا بما لدى الله، ما عرفوا الله؛ فلهذا ما صلوا. وعلى هذا فليكن القياس، المؤمن بحكم إيمانه حي يسمع النداء ويبصر العظات والعبر، وينطق بالخير والمعروف، ويمشي إلى الهدى، ويأخذ ويعطي ما هو نافع وخير؛ لأنه حي، فالمؤمن حي، والكافر ميت، لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل ولا يأخذ ولا يعطي، وانظروا إليهم واسمعوا عنهم، ادعوا الكافر للحق والخير هل يستجيب؟ لا يستجيب.


فالإيمان إذا وجد دل على وجوده سلوك المؤمن، الإيمان هو الذي ينتج العمل الصالح، والعمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان، فاجتناب ما يكره، ما يبغض، ما هو شر، هذا ما هو إلا ثمرة من ثمرات الإيمان، فمن وقر الإيمان في نفسه إيمان علم ومعرفة وإيمان تقليد وتبعية، سنة الله في هذا الإيمان أنه يدفع إلى الخيرات والمنافسة في الصالحات، ويمنع ويحول دون الباطل والشر والفساد، ولا يقبلها أبداً، ويتمعر وجهه لرؤيتها ولذكرها أيضاً.


فيا من يرجون وعد الله الصادق! قدموا الإيمان الصحيح. مؤمنة تسمع قول الله في الإذاعة وتسمعه في المحاضرة وفي الخطبة وتخرج كاشفة عن وجهها، متبرجة في شوارع مدينتها وسوقها، هذا يدل على إيمانها؟ فهي إحدى امرأتين: إما كافرة مظلمة النفس، وإما مغرر بها بأن كشف الوجه يجوز، واحدة من اثنتين: إما أن تكون مؤمنة إذا سقط نصيفها من على رأسها تقع على الأرض: واكشفتاه! فكيف تزيح الخمار عن وجهها وتقابل الرجال في الشوارع؟! فهي واحدة من اثنتين: إما أن قلبها مظلم ما عرفت شيئاً عن السماء والملكوت الأعلى، بهيمة ماشية على الأرض، وإما غروها وغشوها بكلمة: لا بأس بالوجه والكفين.

 

 

أنا ماذا أقول لكم يا أهل الإيمان؟! أرأيتم لو أن أحدكم أذنب الليلة ذنباً؛ أخذ ريالاً حراماً، أسألكم بالله كيف ينام؟ كيف يكون عشاؤه الليلة؟ فكيف لو ضرب مؤمناً أو آذاه في جسمه أو عرضه، كيف يبيت يتقلب؟! إذا بات كأنما على الجمر فاعلم أنه مؤمن، وإذا كان يؤذي مؤمناً في عرضه أو ماله أو جسمه ثم يبيت يضحك فقلبه ميت لا إيمان، وأين الإيمان؟! وقد عرفتم ما أنتم عليه، لو أن أحدكم يعطى ما في الأرض على أن يترك الصلاة ما تركها. إذاً: الإيمان أعطيكم ميزانه، اسمع يا عبد الله! الإيمان: هو في حقيقته وجوهره ألا يكون لك مع الله حق الاختيار. إذا كنت تريد أن تكون مؤمناً فعندما تدخل حظيرة الإيمان وتنتظم في سلك المؤمنين لم يبق لك حق الاختيار، وإذا بلغك أمر الله أو رسوله ما عليك إلا أن تطبق، وإن عجزت تبيت تتمرغ، وتظل تذرف الدمع على خديك، كلما ذكرت بأمر الله الذي فرطت فيه بكت عيناك واضطرب قلبك ووجلت بين يدي الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، خافت واضطربت. يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [الأحزاب:36]، أي: ما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا حكم الله أو حكم رسول الله بإذن الله وقضى بقضية وقال: حلال أو حرام، لم يبق للمؤمن مجال للاختيار، فما عليه إلا أن يسلم لقضاء الله ويقدم ما طلب الله منه، أما مؤمنة تسمع مثل هذا الكلام، وتخرج سافرة بين الأنام، أتشك في كتاب الله أم في سنة رسول الله؟ أم ماذا؟

 

أقول: الحد الفاصل للإيمان أنك تكون خاضعاً منقاداً لحكم الله، لو طلب منك إحدى عينيك لقدمتها، لو طلب منك إحدى يديك لقدمتها، طلب منهم كلهم فأعطوه كلهم، الذين يسقطون شهداء في معارك الإسلام في أفغانستان أعطوا لله كل شيء، السمع والبصر واليد والرجل والعقل والنفس، أما أن يطلب الله منك شيئاً خفيفاً وتشح به وتبخل، وتؤثر سمعة أو شهرة أو تؤثر حالة مادية أو معنوية اجتماعية، وتعيش وأنت مطمئن وتضحك! ما أظن هذا يتفق مع الإيمان. كلنا يذنب ولكن إذا أذنبنا بكينا، ودمعت العين، واحترق القلب، وتمزقت الكبد، وشعرنا بالمصيبة، ولو كان الذنب كلمة.

 

أما إذا كان العبد يترك الواجبات ويهمل الفرائض، ويغشى الكبائر، ويدخل في مساخط الله ورسوله ويظل يبتسم ويأكل ويشرب، هل هذا مؤمن؟ لا نخادع أنفسنا، وإن كنا نتسامح ونبشر ولا ننفر، ولكن الحقيقة هي هذه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الأحزاب:36]، لما فرض الله الحجاب سلوا عائشة تخبركم رضي الله تعالى عنها، خرج نساء الأنصار وعلى رءوسهن الخمر السوداء، فقالت: (ما إن نزلت آية الحجاب حتى خرج نساء الأنصار وكأن على رءوسهن الغربان) جمع غراب أسود، نزلت الآية اليوم وتلاها المسلمون ودخلت بيوتهم وفرحوا بها، فخرجت نساء الأنصار وكأن على رءوسهن الغربان.

 

هذا هو الإيمان.

خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش أم المؤمنين الأسدية بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خطبها لـزيد بن حارثة الكلبي مولاه، فلما عرفت أنها مخطوبة لمولى، قالت: لن يتم هذا الزواج ولن يكون أبداً، شرفي قبل كل شيء، والله ما إن نزلت هذه الآية حتى طرحت نفسها بين يدي رسول الله يزوجها لمن شاء، وفيها نزل هذا القرآن: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]. ومعنى هذا: لم تحلق أنت وجهك؟ أما أنت بمأمور؟ أنسيت أن رسول الله أمر؟ أنسيت أنها أوامر حقيقية صادقة عاش عليها المسلمون عشرات بل مئات السنين؟ فما يرتابك؟ لم لا تعفي لحيتك، وتظهر في رجولتك وفحولتك وأنت عبد الله ووليه، والدنيا كلها تحت قدميك؟ من يساويك يا عبد الله؟ الأبيض أو الأصفر، النصارى واليهود والبوذيون والهندوس والمجوس، والله كلهم لو وضعوا في كفة ميزان لكان هذا المؤمن أرجح منهم وأثقل، هؤلاء نقلدهم ونجري وراءهم؟! قلدناهم لما غلبونا وداسونا بنعالهم، لما رفع الله تلك الأقدام المنتنة على رءوسنا، نبقى تابعين لهم نغضب الله ورسول الله من أجل أن نرضيهم؟ اللهم لا يرضون علينا، اللهم إنا نطلب رضاك، ونطلب سخطهم، ما نريدهم أن يرضوا علينا.

 

فالذي من أبنائنا ما بدأ بعد الشعر يظهر في لحيته، ماذا نطلب منه؟ دلل على إيمانك بالدموع، بالاستغفار، أما أن تسمع أمر الله ورسوله ثم لا تبالي به، أين رأسك؟ أنت تصلي إلى أي مكان؟ قضى رسول الله، فلم لا تنفذ أمر رسول الله، أرجأناك أسبوعاً، شهراً، أرجأناك سنة متى تتوب ومتى تعود؟! هذا مثال فقط، فالمؤمن يخطئ، ولكن مع الخطأ التوبة والشعور بالألم، وقد قلت لكم وتجدون في أنفسكم: صاحب الإيمان إذا أخطأ يبقى الليالي والأيام وهو متألم متضايق، أما أن يغشى الكبيرة والصغيرة ويرفع رأسه ويضحك ويأكل ويشرب، وينام ويلهو أيضاً! فمسكين هذا، أين الإيمان؟

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الإيمان والعمل الصالح

  • أولاً الإيمان

    د. فخر الدين بن الزبير المحسي

    هو التصديق والإقرار بالله تعالى، وبما أخبر عنه والعمل بمقتضاه.ويشتمل: اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل

    08/05/2022 927
  • التزام السنة

    الشيخ صالح أحمد الشامي

    قال أبو عمرو: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه. واسلك سبيل سلفك

    16/01/2021 755
  • عوامل تزكية النفوس

    الشيخ أبوبكر الجزائري

    الآن معاشر المستمعين! النفس البشرية تزكو وتخبث، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها، السؤال: يا شيخ! دلنا على ما

    17/07/2013 3879
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day