أهمية الأعمال القلبية، والمفاضلة بينها وبين أعمال الجوارح
أهمية الأعمال القلبية، والمفاضلة بينها وبين أعمال الجوارح [انظر رسالة:الإرجاء للدكتور سفر الحوالي 2 / 541] :
وذلك من وجوه متعددة:
أولها:
أن اختلال العبادات القلبية لربما هدم العبادات التي تتعلق بالجوارح:
ومن أمثلة ذلك: الإخلاص:وهو عمل قلبي، فإذا زال الإخلاص من قلب العبد، فوقع في الشرك، أو إذا وقع في النفاق الأكبر؛ فإن إيمانه يضمحل، وإذا وقع في الرياء؛ فإن إيمانه يختل، وذلك العمل الذي خالطه الرياء يكون باطلاً؛ فالله طيب لا يقبل طيباً
كما قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
[أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ]
رواه مسلم
فالله لا يقبل هذه الأعمال التي يخالطها الإشراك: سواء كان ذلك في أول العمل من أوله، أو كان في أثنائه واسترسل العبد معه، فإن ذلك يبطل العمل في هاتين الصورتين، فصارت عبادة العبد الظاهرة: كالركوع، والسجود، أو الصلاة، أو الصيام، أو غير ذلك صار ليس له منها إلا التعب، ثم يعاقب عليها؛ لأنه صرفها لغير الله عز وجل .
مثال آخر من الأعمال القلبية:التواضع: وهو عمل قلبي يظهر أثره على الجوارح، ما الذي يبطله ويفسده؟ الكبر، والكبر هو تعاظم في القلب يظهر أثره على جوارح الإنسان، فهذا يدل على اختلال عبادة التواضع- وهي عبادة قلبية- لداء الكبر، ومعلوم أن الكبر مانع من دخول الجنة .
∙ مثال ثالث:الحسد: داء قلبي، وعلة من علل القلوب تفسد القلب، وهو يُذْهِبُ ما يجب على المؤمن من صفاء قلبه لإخوانه المسلمين، فهذا الإنسان الحسود يتمنى أن تزول النعمة عنهم، سواء وصلت إليه أم لم تصل إليه، فهذا الحسود لا يحب قطعاً لإخوانه ما يحب لنفسه، وإلا لِمَ يحسدهم؟! فهذا يدل على اختلال في العمل القلبي الواجب من محبة الخير للمسلمين كما يحب لنفسه، وهي عبادة قلبية، فالحسد يذهب الحسنات .
ثانياً:الأعمال القلبية أساس النجاة من النار والفوز بالجنة: كالتوحيد فهو عبادة قلبية محضة، وسلامة الصدر للمسلمين عبادة قلبية، وتعرفون جميعاً حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
[ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ] فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ - يعني إذا حصلت له انتباهه ذكر الله، لم ير قيام ليل، ولا صيام نهار، ولا كثرة ذكر، ولا كثرة تلاوة للقرآن- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَار: [ٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ] فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ- ولاحظوا إخلاص السلف رضي الله عنهم، ما قال:إني صاحب أعمال كثيرة، وصعب أن أحصيها لك الآن، ولا أريد أن أظهر عملي، ليظهر كأن عنده بعض الأعمال العظيمة - قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
ليس في قلبه غل على أحد، ولا حسد لأحد من المسلمين، فماذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص- وهو من علماء الصحابة وعبادهم، كان يصوم الدهر حتى نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم وما زال به حتى أقره أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يختم القرآن في صلاة الليل في كل ليلة لما سمعه عبد الله بن عمرو بن العاص ماذا قال ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ' رواه أحمد .
تأملوا في هذه الجملة وقفوا عندها طويلاً:' هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ' من قالها ؟ إنسان عالم،عابد، من أعبد الناس، زوجه أبوه امرأة من أشراف قريش يقول فجاء عمرو بن العاص بعد سبعة أيام إلى زوجة عبد الله بن عمرو فسأل عنه فقالت:' نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ'. ما قربها وما لمسها يقوم طول الليل، إذا غربت الشمس بدأ في ورده، وإذا صلى العشاء بدأ القيام إلى الفجر، ثم هو صائم، فلم يعجب ذلك أباه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكاه، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ... الخ القصة المعروفة. رواها البخاري ومسلم .
شاب يتوقد حيوية، وليس به علة ما هو مريض، ولا ضعيف، ولا عاجز مشغول، ومع ذلك يقول لهذا الرجل:' هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ ' فهذا يدل على أي شيء؟ يدل على عظم هذا المعنى، وأنه يبلغ بالإنسان أعلى الدرجات وإن لم يكن له عمل كثير، ويدل على أنه من أصعب الأشياء، صفاء القلب للمسلمين، ونقاء القلب لإخواننا هذا أمر صعب، قد يكون الإنسان عنده علم كثير، وعبادة كثيرة، ومع ذلك لا يستطيع أن يسيطر على قلبه، لكن بالمجاهدة مع كثرة الدعاء والإلحاح على الله عز وجل وكما علمنا الله:
{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[34]
[سورة فصلت]
وإسقاط حظوظ النفس، إذا خرجت من بيتك اجعل حظ النفس خلف ظهرك، لا ترى لأحد عليك حقاً فتشره على هذا، وتعتب على هذا، وهذا لم يقدرني، وهذا ما قام حينما سلم عليّ وقام لفلان، وهذا لم يزرني حين مرضت، وهذا لم يعزيني في فلان، وما إلى ذلك .. دع عنك هؤلاء وارتبط بالله عز وجل، فالعبادات القلبية أساس النجاة والفوز بالجنة.
ثالثاً:أنها سبب المراتب العالية في الجنة: فالحب في الله عبادة قلبية محضة،
وقد صح من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
[ إِنَّ لله جُلَسَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ وَكِلْتَا يَدَي الله يَمِينٌ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ وُجُوهُهُمْ مِنْ نُورٍ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ وَلَا صِدِّيقِينَ] قِيلَ يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمْ قَالَ: [ هُمْ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى]
رواه الطبراني في الكبير12/134 وقال الهيثمي في 'المجمع' 10/277 بعد عزوه له:' ورجاله وثقوا '.
وهكذا أيضاً الأخلاق الحسنة: الحياء، والصبر، وما إلى ذلك من الأخلاق الطيبة الكاملة،
فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
[ مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ]
رواه أبوداود وأحمد الترمذي وقال:حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
[إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا...]
رواه الترمذي رقم 2108 وقال: حَسَنٌ غَرِيبٌ