إبطال قول أهل التأويل في الاستواء
إبطال قول أهل التأويل في الاستواء
وأما من أوّل صفة الاستواء فهم طائفتان : طائفة تقول معناها الاستيلاء فإن "استوى" معناه عندهم استولى بزيادة اللام . وهو قول الجهم بن صفوان .[1] وقد صرح جمع من علماء اللغة بأنه مخالف لما تعرفه العرب في كلامها حتى قال ابن الأعرابي – النحوي المشهور – لمن قال له ذلك : ويحك ! إن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة ، والله لا يغالبه أحد.
ثم إنهم لم يجدوا ما يؤيدون به هذا التأويل من كتاب الله ولا من سنة رسوله ^ ولا من قول العرب الفصحاء إلا بيتًا منحولا على الأخطل النصراني – شاعر العصر الأموي – وهو قوله :
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق
وقد أنكر العلماء نسبة هذا البيت إلى الأخطل ، وقال بعضهم إنه هكذا :
بشر قد استولى على العراق * من غير سيف ودم مهراق
ولو ثبت عنه كما نقلوه لما كان مقبولا، فإن الأخطل نصراني سيء المعتقد، وهو القائل – يستهزئ بشعائر الإسلام :
ولست بقائم كالعير يـدعو
قُبيل الصبح حي على الفلاح
ولست بصائم رمضان طوعا
ولست بآكل لحـم الأضاحي
ولست بسائق عيسا بكـورا
إلى بطحـاء مكـة للنجاح
ولكـني سأشربهـا شمـولا
وأسجـد عند منبلج الصباح
ولو كان الأخطل مسلما لما قُبل منه هذا البيت أيضا فإنه من الموّلدين الذين تأثرت عربيتهم بالعجمة ، فلا يحتج بقوله على تفسير الكلام الرباني ناهيك عن هذا الأمر الخطير الذي هو صفة من صفات الله العلية . ولقد شنّع على هذا المعتقد مع هذا الاحتجاج عدد من أهل العلم نظما ونثرا . ومن الأول ما جاء في لامية ابن تيمية رحمه الله :
وأقول قال الله جل جلاله
والمصطفى الهادي ولا أتـأول
وجميع آيات الصفات أُمرها
حقا كما نقل الطـراز الأول
وأرد عهدتهـا إلى نقالهـا
وأصونها عن كـل ما يُتخيل
قُبحا لمن نبذ القران وراءه
وإذا استدل يقول قال الأخطل[2]
ومنه ما قاله تلميذه الحافظ ابن القيم في النونية :
أُمر اليهود بـأن يقولوا حـطة
فأبوا وقالوا حنطة لـهوان
وكذلك الجهمي قيل له استوى
فأبى وزاد الحرف للنقصان
قال استوى استولى وذا من جهله
لغة وعقلا ما هـما سيان
نـون اليهود ولام جهمي همـا
في وحي رب العرش زائدتان[3]
والقائلون بهذا التأويل يلزمهم أحد أمرين : إما القول بأن الله استولى على العرش ولم يستول على سائر المخلوقات لأن الله خص بهذا الوصف عرشه العظيم أو أن الله استوى على السموات والأرض وسائر المخلوقات جميعا وكلاهما غير صحيح فإن الله ذكر أنه ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ولا يجرؤ أحد على القول بأن الرحمن على الأرض استوى ، فدل على أن استواءه على عرشه غير غلبته على العرش وعلى سائر المخلوقات. وقد رد هذا التأويل الحافظ ابن القيم من أربعين وجها.[4]
والطائفة الثانية تؤول العرش بمعنى المُلك ، فمعنى استوائه على العرش عندهم ارتفاعه على المُلك . وبطلان قولهم لا يخفى لأن العرش سرير محسوس له ظل[5] وهو محمول ومحفوفة به الملائكة كما يدل عليه قول الباري جل في علاه: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة : 17] وقوله عز وجل : ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [غافر : 7] وقوله سبحانه : ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزمر : 75].
فالعرش أعظم المخلوقات ، وقد كان موجودا قبل خلق السموات والأرض كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود : 7] . وله قوائم كما في حديث :"فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" [6].فهل ملكه هو الذي كان على الماء ؟! أو أنه الذي تحمله الملائكة وتحف من حوله ؟!! أو هو الذي أخذ موسى عليه السلام بقائمة من قوائمه ؟!!! ما أقبح التأويل !.
---------------------------------
[1] والجهم قد أخذه عن الجعد بن درهم عن أبان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم عن خاله لبيد . وهذه سلسلة يهودية لها سوابق في محاربة الإسلام . ولبيد بن الأعصم هو اليهودي الذي سحر النبي ^..
[2] العقيدة السلفية بين الإمام ابن حنبل والإمام ابن تيمية للدكتور سيد عبد العزيز السيلي ، دار المنار ، القاهرة ، ط. الثانية ، 1416هـ/1995م ، ص298 .
[3] القصيدة النونية المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية للعلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية ، عني بها عبد الله بن محمد العمير ، دار ابن خزيمة، ط. الأولى ، 1416هـ/1996م ، ص157 .وهذه القصيدة من أعظم ما انتصر به لعقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم مع الرد المفصل على جميع معتقدات الفرق المخالفة لهم في مناهج عقيدتهم. وتقع في 5821 بيتا .
[4] انظر : القصيدة النونية لابن القيم ص91 ، وشرحها للشيخ محمد خليل هراس 1/179-180 ومختصر الصواعق المرسلة 306 وما بعده ، وتوضيح الكافية الشافية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص61 ، وتوضيح المقاصد لابن عيسى 1/397-398 .
[5] كما في حديث :"سبعة يظلهم الله في ظل عرشه..." الحديث .
[6] صحيح البخاري ، ك الخصومات ، باب 1 ، ح 2411 وك التوحيد ، باب 22 ، ح 7427 وانظر أيضا الأرقام التالية : 3408 ، 3414 ، 4813 ، 6517 ، 6518 ، 7472 . وصحيح مسلم ، ك الفضائل ، باب 42 ، ح 2373 وليس في رواية مسلم ذكر القوائم وإنما في أحد رواياته "فإذا موسى باطش بجانب العرش" .