استواؤه على العرش
استواؤه على العرش
العرش أعظم المخلوقات كلها ، وقد نصّ الله في سبعة مواضع من كتابه على استوائه على العرش بقوله : ( الرَّحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] .والدليل على أنّ العرش مخلوق من مخلوقات الله قوله تعالى : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانيةٌ ) [ الحاقة : 17 ] أي في يوم القيامة ، وقوله : ( الَّذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للَّذين آمنوا ) [ غافر : 7 ] فقد أخبر أنّ للعرش حملة ، وأنّهم يستغفرون للمؤمنين ، وهذا ينفي قول من يقول إن العرش هو الملك .
وفي الحديث الذي يرويه البخاري : ( إذا سألتم الله فسلوه الفردوس ، فإنّه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تُفجّرُ أنْهارُ الجنة ) . (1)
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تخيّروني على موسى ، فإنّ الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانبي العرش ،فلا أدري أكان موسى فيمن صعق ، فأفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله ) . (2)
وفي رواية في الصحيح عن أبي سعيد الخدري : ( فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ) . (3)
فكيف لا يكون العرش خلقاً من خلق الله وهو سقف الفردوس ، وكيف يمكن لموسى أن يمسك بقائمة من قوائمه لو كان غير مخلوق !!
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي ) . (4)
عِظَم العرش :
وصف الله العرش بأنه عظيم ( وربُّ العرش العظيم ) [ المؤمنون : 86 ] .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم عظمة العرش بوجهين من البيان :
الأول : بإخباره عن عظم الملائكة الذين يحملون العرش ، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله ، من حملة العرش : ما بين شحمة أذنِهِ إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ) . (5)
والوجه الثاني : بين الرسول عِظمَهُ بأن صوّر سعة العرش بالنسبة للسماوات والأرض ، وصغرهما بالنسبة إليه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي ، كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) . (6)
تمجيد الله نفسه باستوائه على العرش وأنه ربّ العرش :
وقد امتدح الربّ نفسه بأنّه مستو على عرشه ، كقوله ( طه – ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى – إلاَّ تذكرةً لمن يخشى – تنزيلاً ممَّن خلق الأرض والسَّماوات الْعُلَى – الرَّحمن على العرش استوى ) [ طه : 1-5 ] . وقوله : ( هو الَّذي خلق السَّماوات والأرض في ستَّة أيام ثُمَّ استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السَّماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ) [الحديد :4] .
وامتدح نفسه في أكثر من آية بأنه صاحب العرش ( ذو العرش المجيد – فعَّالٌ لما يريد ) [ البروج : 15-16 ] ( إذاً لابتغوا إلى ذِي العرش سبيلاً ) [ الإسراء : 42 ] .
وامتدح نفسه بأنه رب العرش ( عليه توكَّلت وهو ربُّ العرش العظيم ) [التوبة : 129] ، ( فسبحان الله ربّ العرش عمَّا يصفون ) [ الأنبياء : 22 ] ، ( قل من رَّبُّ السَّماوات السَّبع وربُّ العرش العظيم ) [ المؤمنون : 86 ] .
ومن شعر عبد الله بن رواحة يمجد ربّه سبحانه وتعالى :
شهدت بأن وعد الله حق ××× وأنّ النّار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ××× وفوق العرش ربّ العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ××× ملائكة الإله مسوّمينا
روى هذا الشعر ابن عبد البر في الاستيعاب ، وقال : رويناه من وجوه صحاح .
معنى استوائه على العرش :
نحن نجهل كيفية استوائه سبحانه ، لأننا نجهل كيفية ذاته ، ولكنّنا نعرف معنى استوى في لغة العرب ، فالعرب عندما يُعدّون استوى بـ ((على)) يقصدون بهذه الكلمة معاني أربعة هي : استقر ، وعلا ، وارتفع ، وصعد ، كما حقق ذلك ابن القيم . (7)
وقد نقل أبو الحسن الأشعري عن المعتزلة أنهم فسروا ( استوى على العرش ) بمعنى استولى عليه (8) ، فالذي يؤول الاستواء هذا التأويل سلفه في هذا المعتزلة ، وبئس السلف هم .
أما أهل السنة وأصحاب الحديث فإنهم يثبتون استواءه على العرش ، ولا ينفونه ، ولا يكيفونه كما نقل ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله . (9)
وقد نقل لنا أهل اللغة أن العلماء بالعربية الذين لم تتدنس فطرهم بقاذورات الفلسفات الوافدة أبوا أن يفسروا استوى باستولى .
قال داود بن علي الأصبهاني : كنت عند ابن الأعرابي ، فأتاه رجل فقال : ما معنى قوله عزّ وجلّ : ( الرَّحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] فقال ابن الأعرابي : هو على عرشه كما أخبر ، فقال : يا أبا عبد الله : إنما معناه استولى ، فقال ابن الأعرابي : فما يدريك ؟ العرب لا تقول استولى على الشيء حتى يكون له مضاد ، فأيهما غلب فقد استولى عليه ، أما سمعت قول النابغة :
إلا لمثلك أو من أنت سابقه ××× سبق الجواد إذا استولى على الأمد (10)
وهذا النهج ، وهو معرفة معنى الاستواء وجهل الكيفية والنهي عن البحث فيها هو منهج السلف الصالح ، فعندما سئل الإمام مالك : ( الرّحمن على العرش استوى ) [طه :5] كيف استوى ؟
أطرق مالك ، وأخذته الرحضاء ، ثم رفع رأسه فقال : " الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال : كيف ؟ وكيف عنه مرفوع ، وأنت صاحب بدعة ، أخرجوه " . (11)
وفي رواية عن مالك أنه قال : " الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " . (12)
وقوله : " غير مجهول " أي : معلوم ، والمعلوم منه معناه ، فإن له في لغة العرب معنى تفقهه العرب ، وتعيه ، ويمكن للعالم أن يفسره ، ويترجمه ، ولذا فإن كثيراً من الذين حكوا عن الإمام مالك مقالته السابقة ينقلونها عنه بالمعنى ، فيذكرون أنه قال في الرد على الرجل : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " (13) . ولا فرق في الحقيقة بين القول إن الاستواء معلوم ، أو أنه غير مجهول ، فمعناهما واحد .
يقول القرطبي رحمه الله تعالى : " كان السلف الأول – رضي الله عنهم – لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله .
ولم ينكر أحد أنه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء ، فإنه لا تعلم حقيقته .
قال مالك : " الاستواء معلوم – يعني في اللغة – والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها . وهذا قدر كاف " . (14)
-----------------------
(1) صحيح البخاري : 13/404 ، ورقمه : 7423 .
(2) صحيح البخاري : 11/367 ، ورقمه : 6517 ، 6518 ، والحديث في مسلم أيضاً : 4/1834 ، ورقمه : 2373
(3) صحيح البخاري : 13/405 ، ورقمه : 7427 .
(4) صحيح البخاري : 13/404 ، ورقمه : 7422 .
(5) صحيح سنن أبي داود : 3/895 ، ورقمه : 3953 .
(6) أخرجه محمد بن أبي شيبة في كتاب العرش ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وابن جرير وغيرهم ، وهو صحيح بمجموع طرقه ، انظر كلام الشيخ الألباني على إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حديث رقم 109 .
(7) انظر شرح الواسطية للهراس : ص 80 .
(8) مقالات الإسلاميين : ص 157 ، 211 .
(9) مقالات الإسلاميين:ص211 ، 290 .
(10) لسان العرب : 2/249 .
(11) رواه البيهقي ، وصححه الذهبي : انظر مختصر العلو للعلي الغفار ، للذهبي : ص 141 حديث رقم : 131
(12) انظر مختصر العلو : ص 141 ، وحديث رقم 132 .
(13) تفسير القرطبي : 2/219 .
(14) تفسير القرطبي : 2/219 .