الأقنوم الأول: الأب
1- المراد به: يراد بالأب عندهم: الذات الإلهية مجردة عن الابن والروح القدس، وهو بمنزلة الأصل والمبدأ لوجود الابن. مع أن هذا لا يعني لديهم أن الأب سبق الابن في الوجود، بل الابن أزلي الوجود معه لم يسبق أحدهما الآخر. وليس له عمل عندهم إلا الاختيار والدعوة.
2- أدلتهم على أبوة الله للمسيح - تعالى الله عن قولهم-:
وردت كلمة الأب لدى النصارى في العهد الجديد في مواطن عديدة، وورد في بعضها نسبة أبوة الله للمسيح، منها ما ورد في إنجيل متى (10/32): " فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضا به قدام أبي الذي في السماوات".
وأيضاً قوله عن وقت القيامة (24/36): " وأما ذلك اليـوم وتلك الساعـة فلا يعلم بها أحد من ملائكة السماوات إلا أبي وحده ".
ورد في إنجيل لوقا (2/49) من كلام المسيح لأمه وزوجها في زعمهم: " فقال لهما: لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي".
وورد أيضاً في إنجيل يوحنا (8/19): "فقالوا له: أين هو أبوك؟ فأجاب يسوع: لستم تعرفونني أنا ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً".
فبناءً على هذه النصوص زعم النصارى أن الله تعالى "أبٌ " للمسيح أبوة حقيقية، وهو كلام باطل، ووهم خاطئ، وافتراءٌ على الله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرا.
3- الرد عليهم وبيان بطلان قولهم:
يُرد عليهم من عدة أوجه:
أولاً: أن النصارى اعتمدوا في إثبات هذا على ألفاظ وردت في الأناجيل الأربعة وغيرها من كتب العهد الجديد، وهذه الأناجيل كما سبق بيانه لا تصلح أن تكون مستنداً لهذا؛ لأنها كتب غير موثقة، ولم يستطع النصارى أن يثبتوا صحة نسبتها إلى الأشخاص الذين نسبت إليهـم، فضلاً عـن أن ينسبوهـا إلى المسيح عليه السلام أو إلى الله عزَّ وجلَّ. كما أن بينها اختلافات عديدة في هذه الألفاظ نفسها، فكلمة (أبي) وردت في "إنجيل متى" من كلام المسيح ما لا يقل عن اثنتي عشرة مرة، ولا تكاد تراها في "إنجيل مرقص"، أما "إنجيل لوقا" فذكرت في موضعين تقريباً، وأما "إنجيل يوحنا" فوردت فيه فيما يقارب ثمانية عشر موضعا، مما يدل على أن هذه الكلمة تتبع عقيدة خاصة وفهما خاصا لدى الكاتب، لا يرتبط فيه ولا يلتزم بعبارة المسيح وألفاظه، وإنما يكتبها ويعبر عنها الكاتب وفق عقيدته وتصوره.
مثال ذلك: أن المثال السابق المذكور عن وقت الساعة من إنجيل متى، ورد فيه (أبي وحده) ، وقد ذكر مرقس في (13/32) هذه الجملة، إلا أنها عنده هكذا: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب". فهنا قال: الأب. بدون ياء النسب وهناك في "متى" قال: "أبي". وبينهما فرق عظيم.
ثانياً: أن النصارى لا يعتقدون أن الله أبٌ للمسيح أبوة حقيقية من ناحية أن الأب غير الابن، وأنه قبله في الوجود، بل يرون ويعتقدون أن الله تعالى أب للمسيح، وهو في نفس الوقت هو هو، ليس هو غيره، حيث يقولون: إنهما جوهر واحد، ولم يسبق الأب الابن في الوجود، وهذا يجعل كلمة الأب الواردة في الأناجيل لديهم ليس لها مفهوم حقيقي، وهذا يبطل استدلالهم بهـذه النصوص، ويجعلهم يستدلون بها على غير ما يقصدون ويعتقدون.
ثالثاً: على فرض صحة الروايات الواردة لديهم في الأناجيل في كلمة "الأب" فيجب أن تفسَّر على معنى غير الأبوة الحقيقة لأمرين:
1- أنهم أوردوا على لسان المسيح كلاماً كثيراً لا يمكن أن يحمل على المعنى الظاهري، بل لابد من حمله على المجاز كقوله: "فقال لهم يسوع: أنا هو خبز الحياة". يوحنا (6/35) وأيضا أنه قال لليهود: "أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا". يوحنا (8/44).
فهذا كلام لا يؤخذ على ظاهره، فكذلك أبوة الله للمسيح. 2- أن نسبة الأبوة إلى الله ليست خاصة في المسيح لديهم، بل وردت في العهد القديم، وفي الأناجيل منسوبة إلى غير المسيح، ومن ذلك ما ورد في سفر صموئيل الثاني (7/14) في كلام الله في زعمهم عن سليمان بن داود عليهما السلام: " أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا".
وورد في إنجيل متى (6/1) من كلام المسيح لتلاميذه: "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم أمام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات".
وفي إنجيل مرقص (11/25) من قول المسيح لتلاميذه أيضاً: "ومتى وقفتم تصلون فاغفروا إن كان لكم على أحد شيء؛ لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم- الذي في السماوات- زلاتكم، وإن لم تغفروا أنتم لا يغفر لكم أبوكم- الذي في السماوات- أيضاً زلاتكم".
في إنجيل لوقا (11/2) من قول المسيح لتلاميذه: " فقال لهم: متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات".
وفي إنجيل يوحنا (20/17) وهو من آخر كلام المسيح بعد القيامة المزعومة: " قال لها يسوع: لا تلمسيني؛ لأني لم أصعد بعد إلى أبي، ولكن اذهبي إلى إخوتي، وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم".
فهذه النصوص على فرض صحتها فيها دلالة واضحة على نسبة أبوة الله تعالى للتلاميذ، والمراد بها في كلام النصارى في هذه المواضع أبوة النعمة.
وما سبق ذكره من النصوص التي ورد فيها أبوة الله للمسيح لا تختلف عن هذه النصوص، فالقول فيها مثل القول في هذه.
فمن هنا يتضح أنه ليس في هذا اللفظ ما يدل على معتقد النصارى في الله، وأنه أب للمسيح سوى من ناحية النعمة والإحسان