التاسع من ثمراته: أنه يحمل صاحبه على مباشرة الأهوال، وركوب الأخطار
.
* التاسع من ثمراته: أنه يحمل صاحبه على مباشرة الأهوال، وركوب الأخطار: وهو يأمر بالإقدام دائماً، فإن لم يقارنه العلم؛ فربما حمل على المعاطب، والعلم من غير اليقين قد يحمل صاحبه على التأخر والنظر في حسابات كثيرة من نواحٍ متعددة، فتفوت صاحبه الفرص.[بصائر ذوي التمييز 5/400]. فإذا قارنه اليقين؛ فذاك الكمال، وقد قال الجنيد: 'قد مشى رجال باليقين على الماء' . ولما أراد سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه أن يعبر دجلة إلى المدائن، وقطع الفُرْسُ عليه الجسر، وحازوا السفن؛ نظر سعد في جيشه، فلما اطمأن إلى حالهم، اقتحم الماء، فخاض الناس معه، وعبروا النهر فما غرق منهم أحد، ولا ذهب لهم متاع، فعامت بهم الخيل وسعد يقول:' حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصُرَّنَ الله وليَّه، وليُظْهِرَنَّ الله دينه، وليهزمن الله عدوه؛ إن لم يكن في الجيش بَغْيٌ أو ذنوب تغلب الحسنات'[تاريخ الطبري2/462]. ولما نزل خالد بن الوليد رضى الله عنه الحيرة، فقيل له: احذر السم لا تسقك الأعاجم، فقال:' ائتوني به، فأُتي به، فالتهمه، واستفه، وقال: بسم الله، فما ضره'. قال الذهبي رحمه الله:' هذه والله الكرامة وهذه الشجاعة' [سير أعلام النبلاء1/376].
فانظر إلى هذه الأمور: لو أن العبد أقدم عليها من غير حاجة، ومن غير بصر ونظر في حاله، وتوكله على الله عز وجل، وصلاح أموره، وعلاقته مع ربه؛ فإن ذلك قد يورثه الهلكة، ولو أن عبداً قَلَّ يقينه، وإيمانه، وكثرت ذنوبه، فأراد أن يُغِير على عدوه، فاقتحم الماء، ماذا تكون النتيجة المتوقعة؟ النتيجة هي: الغرق والموت والهلاك، ولكن سعدًا رضي الله عنه زمَّ هذا اليقين بالعلم، فأمر بالنظر في أحوال الجيش، فلما وجدهم على حال من التقى، وخاف أن يفوت المسلمين ذلك المقصود الكبير- وهو تلك الغنائم الهائلة العظيمة في المدائن وهي عاصمة فارس- ولم يجد شيئاً يركبه إليهم، فخشي إذا تأخر أن يذهب عنه ذلك؛ أجمع، فركب الماء، وسلمه الله عز وجل.
وانظر إلى حال علاء الدين خوارزم شاه- وهو من قادة المسلمين الكبار- كان عالماً بالفقه والأصول، محباً للعلماء، من أهل العبادة والزهد، وكان يحب أهل الدين، يقول عنه الذهبي:' أباد ملوكًا، واستولى على عدة أقاليم، وخضعت له الرقاب'. ووصفه ابن الأثير في 'الكامل' بقوله:' كان صبورا على التعب وإدمان السير، غير متنعم ولا متلذذ'. وقال عنه: إنه كان يبقى أربعة أيام على ظهر فرسٍ لا ينزل، إنما ينتقل من فرس إلى فرس- الفرس يتعب! وهو لا ينزل أربعة أيام، فإذا تعب فرس انتقل منه مباشرة إلى ظهر الفرس الآخر- وكان يطوى البلاد، ويهجم على المدينة بنفر يسير، ثم يُصَبِّحهم من عسكره عشرة آلاف، هؤلاء العشرة آلاف هم الذين سبقوا الجيش ممن يكونون من أهل النشاط والجَلَد والصبر.. يهجم على المدينة في المساء، ثم يُصَبِّحهم من جيشه عشرة آلاف، ويمُسِّيه عشرون ألفا، هؤلاء هم الذين سبقوا، ثم يأتي بقية الجيش بعد ذلك. يقول: وإنما أخذ البلاد بالرعب، والهيبة، وكان عدد جيشه سبعمائة ألف. ما الذي جعله يفعل ذلك جميعاً؟ ما الذي جعله يركب الأهوال والأخطار، ويلقى هؤلاء الكفار في وقت قصير لا يتوقعونه، وليس معه من الجيش إلا اليسير؟!
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مناظرته المشهورة للبطائحية، وهم طائفة من الصوفية كانوا يطلون أجسامهم بطلاء معين، ثم يدخلون في النار ولا يحترفون، فأضلوا طائفة من المسلمين، ولبَّسوا عليهم حيث زعموا أن هذا من الكرامات، وأن هذا يدل على أن ما هم عليه من الباطل هو الحق، وأن الله يؤيدهم على ذلك بهذه الكرامات، فماذا صنع شيخ الإسلام رحمه الله؟! استخار ربه، واستعانه، واستنصره، واستهداه يقول:' فسلكت سبيل عباد الله في هذه المسالك حتى أُلقى في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأنها تحرق أشباه الصابئة'. ولما حضر شيخ الإسلام معهم أمام السلطان، وجلس شيوخهم بين يديه، قال للسلطان:' هؤلاء يزعمون أن لهم أحوالا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة- يعني: العلماء والفقهاء- لا يقدرون على ذلك، ويقولون: لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشَرع، وليس لهم أن يعترضوا علينا، بل ينبغي أن يُسَلِّمُوا لنا ما نحن فيه، سواء وافق الشرع أو خالفه'. يقول شيخ الإسلام للسلطان:' وأنا استخرت الله سبحانه أن أدخل النار إذا دخلوها، ومن احترق منا ومنهم؛ فعليه لعنة الله، وكان مغلوباً'. فاستعظم الأمير هجوم شيخ الإسلام على النار، وقبوله الدخول فيها، فقال له: أتفعل ذلك؟ يقول، فقلت:' نعم قد استخرت الله في ذلك، وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، المتبعين له باطناً وظاهراً، لحجة أو حاجة'. شيخ الإسلام يقول: نحن لا نرى أن المؤمن يقتحم على مثل هذه الأمور التي تهلك عادة من غير مبرر شرعي. إنما يقتحم فيها في أحد حالين: إما لإقامة الحجة أنه على الحق، وإما لحاجة كما فعل سعد بن أبي وقّاص رضى الله عنه حينما ركب على الماء، يقول شيخ الإسلام:' إن هؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم، وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه؛ وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونقوم بنصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا، وجسومنا، وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات'.
فانظر إلى شيخ الإسلام رحمه الله: جاء إلى السلطان، وتحداهم أن يدخل معهم في النار، فلما رأوا جزمه على ذلك أبوا، واقتنعوا، وقال كبيرهم: بل نطلب المصالحة، فطلب منهم شيخ الإسلام أن يتركوا هذه الأفعال التي تخالف الشريعة، والتي تُلَبِّس على عوام المسلمين؛ فأقروا بذلك عند الأمير، وهذا مقام لا يفعله أحد من الناس إلا من اكتمل يقينه، وكان هذا اليقين مزموماً بالعلم.