التَّدَاوُلُ القُرْآنِيُّ
بتأمل السيرة النبوية واستقراء مراحلها، ونصوص الكتاب والسنة المتعلقة بها، وبمفهوم البعثة التجديدية، وبالنظر إلى حجم الفساد والانحراف الذي ضرب العالم اليوم؛ يمكن استخلاص المعالِم الرئيسية لِبعْثَةِ التَّجديد فيما يلي:
- المَعْلَمُ الأول: التَّدَاوُلُ القُرْآنِيُّ
إن أَهَمَّ مَعْلَمٍ، وأوضح خاصية، يمكن ملاحظتها في البعثة النبوية ابتداءً؛ هي ظاهرةُ التَّدَاوُلِ القُرْآنِيِّ. ومعنى ذلك أن الاشتغال النبوي إنما كان بالقرآن أساسا؛ بما حقق ما يمكن تسميته: (تَدَاوُلِيَّةً قُرْآنِيَّةً) كبرى في المجتمع الإسلامي الأول. فقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في بداية الأمر من كتابة شيء غير القرآن! وذلك كما في حديثه المشهور، إذ قال صلى الله عليه وسلم:
(لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن! فمن كتب عني غير القرآن فليمحه! وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار!)
([1]).
وقد تواترت أخبار الحركة القرآنية، التي طبعت جيل الصحابة؛ اهتماما، وقراءة، ومدارسةً. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتغل به داعيا إلى الله، ومربيا. وإنما أسلم معظم من أسلم من الصحابة؛ تأثرا بسماع شيء من القرآن! لقد كان للقرآن في جيلهم خبرٌ مَهيب، ونبأ عظيم! يتلقونه ويبثونه؛ حتى صار القرآن هو الحديث الأبرز في تلك المرحلة، تَنَزُّلاً وتداولاً.
إن المسلمين اليوم، يقرؤون القرآن، نعم؛ ولكنهم لا يتداولونه. إننا نقصد بـ(التَّدَاوُلِيَّةِ): الاشتغال الشامل بالقرآن الكريم، الاشتغال الذي يعمر الحياة؛ حتى يطغى على كل شيء سواه؛ تلاوةً، وتعلماً، وتدارساً، وتدبراً، وتزكيةً، إلى أنْ يَفْشُوَ ذلك فُشُوّاً بين سائر فئات المجتمع وطبقاته؛ بما يُؤَسِّسُ تربيةً قرآنية تعبديةً واجتماعيةً، تقوم بين الناس بصورة تلقائية؛ مادةً ومنهجاً. تَبُثُّ قيمَ القرآن وأخلاقَه بينهم بَثّاً يتغلغل في الأنفس، ويتسرب إلى أنسجة المجتمع الداخلية، وخلاياه الشعورية واللاشعورية؛ بما يجعل مفاهيم القرآن متحكمةً في صيرورته، وفي حركته التاريخية. فيصبح القرآن بذلك هو (مُحَرِّكَ الإصْلاَحِ) و(دِينَامُو) العمل الدعوي، القائم على المنهاج النبوي الحق!
هذا شيء – مع الأسف – شبه مفقود اليوم! ولا يكون إلا (ببعثة جديدة)، تجدد اشتغال الأمة بالقرآن.
وكان لجيل الصحابة في عهد النبوة وبعده؛ مجالسُ قرآنية، ليست كأغلب مجالس السهرات القرآنية، التي تعقد اليوم للسماع والتغني، كلا! ولكنها كانت مجالس قرآنية متكاملة، تتضافر فيها التلاوة، والتعلم، والتزكية، على كمال ما تكون التربية النبوية، لخير الأجيال!([2]) وذلك بشهادةالقرآن العظيم
في مثل قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)
(آل عمران:164)
وقوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)
(الجمعة:2).
وانطبعت تلك التربية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا أهل قرآن، وصاروا مختصين به؛ ولذلك سمي فريق منهم بـ(القراء)؛ لتفرغهم لهذا الشأن خاصة.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسّنّةَ. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. يُقَالُ لَهُمُ الْقُرّاءُ. فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ. يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَه بِاللّيْلِ، يَتَعَلّمُونَ)
([3]).
وكانت للقرآن أخبار! يحرص المؤمنون على تتبعها وتناقلها؛ لأنما القرآن أخلاق، ومنهج حياة. فكان حرصهم عليه حرصا على بناء حياتهم. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث طويل، أنهم كانوا يتحدثون أن غسان تُنَعِّلُ الخيلَ لغزو المدينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم حراسا بعوالي المدينة؛ لمراقبة ذلك عن بعد. قال عمر رضي الله عنه: (وكان لي جار من الأنصار، فكنا نتناوب النـزولَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يوما، وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك.)([4])
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتدت تلك المجالس مع الفتوح إلى سائر الأمصار. يصف لنا التابعي الجليل أبو رجاء العطاردي طريقة ذلك، وكيفية تنظيم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، للمجالس القرآنية بالعراق، قال: (كان أبو موسى الأشعري يطوف علينا، في هذا المسجد، مسجد البصرة، يعقد حِلَقاً. فكأني أنظر إليه بين بردين أبيضين، يقرئني القرآن!)([5]) وقد تخرج من هذه الحِلَق الدراسية خَلْقٌ كثير من التابعين. فعن أبي كنانة أن أبا موسى الأشعري (جمع الذين قرؤوا القرآن، فإذا هم قريب من ثلاثمائة! فعَظَّمَ القرآنَ، وقال: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآنَ، ولا يتبعنكم القرآنُ! فإنه من اتبع القرآنَ هبط به على رياض الجنة! ومن تبعه القرآنُ زَخَّ في قفاه، فقذفه في النار!)([6]) فكان القرآن لهم ثقافةً، وتربيةً، وخُلُقاً، ومنهجَ حياة!
ودأب الصحابة رضوان الله عليهم على هذا المنهج؛ حتى لكأن الأمة إنما قامت – حينما قامت – بالقرآن! وكذلك كان!
فنخلص إذن إلى أن التداول القرآني كان له في البعثة الأولى وجهان:
- الأول: تداول اجتماعي، وتم بمقتضاه بث الاشتغال بالقرآن في كل مرافق الحياة الاجتماعية، يُتَلَقى خبرُه، وتضبط عبارته، وتُحفظ تذكرته. ثم يُبَثُّ ذلك كله، ويذاع في الناس، لتسير الآيات في الآفاق، فيعمر القرآن الحياة الاجتماعية؛ ذكراً ومذاكرةً.
ولو يُلْحَظُ ذلك في العمل الدعوي التجديدي اليوم؛ إذن يتحول القرآن إلى خُلُق اجتماعي عام، وتتحول قضاياه، وقصصه، وعِبَرُه، وحِكَمُه، وأمثاله؛ إلى (ثقافة شعبية) سارية. وذلك من شأنه أن يصنع نسيجا اجتماعيا مسلما، عميقا ومتينا، لا تخترقه عوادي العولمة الثقافية والإعلامية، مهما اشتدت ريحها!
- والثاني: تداول تربوي، وهو الذي اختصت به (مجالس القرآن)، التي كانت تعمر المساجد، والبيوت، والبساتين، والشعاب، والبطاح - سِرّاً في مراحل، وعلناً في مراحل أخرى – مما كان قبل الهجرة ومما كان بعدها؛ تعلماً، وتزكيةً، ومدراسةً، وتدبراً، وتَبَصُّراً؛ لتخريج أهل القرآن الحكماء الربانيين، الذين يربون الناس، والذين هم مادة الاستمرار الحضاري للأمة وعمودها الفقري،
والذين ذكرهم الله جل وعلا في قوله: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)
(آل عمران:79).
المراجع
- رواه مسلم.
- ن. بلاغ الرسالة القرآنية: 101-105.
- وكذا مجالس القرآن: 29.
- متفق عليه. متفق عليه
- الحلية لأبي نعيم : 1/256.
- السابق : 1/257.