الحداثة
الحداثة :
تعد معركة الحداثة والأصولية من أهم وأعنف المعارك التى دارت بين الكنيسة والمجتمع المدنى فى الغرب ، وكادت تطيح بتلك المؤسسة العتيدة لولا صمودها بجبروت متفرد. فالحداثة عبارة قد تم إختلاقها وإستخدامها فى خضم تلك المعركة الطاحنة التى قادتها الكنيسة ضد التقدم العلمى والعلماء لكشفهم ما قامت به من تحريف وتزوير على مر التاريخ .
والحداثة تمثل إتجاه ظهر فى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين عند المثقفين ومحاولتهم وضع عِلم اللاهوت فى توافق مع الفلسفة والعلوم الحديثة. فهى كلمة تتعارض مع مفهوم كلمة الأصولية ، التى سنتناولها فيما بعد . ويرجع ظهور كلمة الحداثة تحديدا إلى عام 1879 ، وتشير إلى حركة دينية تهدف إلى المطالبة بتفسير جديد للعقائد والمذاهب التراثية بعد إكتشافات التفسير الحديث القائم على التحليل اللغوى والتاريخى. وهى كلمة تم إشتقاقها من العصرية (Modernité)، لإستخدامها أساسا فى المجال الكنسى ومعركة التجديد التى دارت لتحديث اللاهوت والعقيدة الكاثوليكية وعمل تطوير جذرى للعقيدة. أى أنها كانت محاولة لجعل العقائد الدينية تتمشى مع الحقائق العلمية . وبذلك فهى تعنى تنقية التراث الكنسى ونصوصه الدينية من كل ما به من تحريف وتزييف أو أساطير مخالفة للعقل والمنطق والتى تم تراكمها على مر العصور .
فمما لا شك فيه أن العلم قد أثبت أن عمر الإنسان يرجع إلى أكثر من اربعة آلاف سنة وأن الأرض ليست مسطحة وأنها ليست ثابتة وليست محور الكون ، أى أن التقويم الإنجيلى وأساطير الخليقة فيه ، خاصة كما هو وارد فى سفر التكوين هى فى تناقض صارخ مع الإكتشافات العلمية .. كما أن علم نقد الأناجيل ودراسة اللغات القديمة والألسنيات قد إزدهر خاصة فى الجامعات الأوروبية التى راحت تؤكد أن الكتاب المقدس بعهديه لم يكتبه الأشخاص الذين يُعرف بأسمائهم ، ولا فى الأزمنة التى يزعمها التراث الكنسى ، مؤكدين وجود إختلافات جذرية ومتناقضات جسيمة تتطلب إعادة النظر فى ذلك الكتاب من منظور النقد العلمى .
وقد كان رد فعل الكنيسة من العنف حتى أنها أدانت الحداثة العلمية وكافة الإفتراضات والنظريات الديمقراطية والتحررية التى بدأت تنتشر فى مختلف بلدان أوروبا منذ حوالى عام 1860. وقد أصدر البابا بيوس التاسع خطابا قال فيه : "لا يمكننا قبول أن يقوم العقل بغزو المجال المخصص للإيمان ليثير فيه القلاقل" ! وبعد عامين تقريبا أصدر خطابا رسوليا آخر بعنوان "كوانتا كورا" وجهه ضد الليبرالية السياسية مصحوبا بكشف يتضمن أهم أخطاء العصر فى نظره . وفى ديسمبر عام 1869 قرر عقد مجمع الفاتيكان المسكونى الأول لمحاصرة الحداثة ، وفرض خلاله عقيدة معصومية البابا من الخطأ بإعتباره ممثلا للإله على الأرض ، وتم رفض كل ما أطلق عليه "الأخطاء" الناجمة عن تقدم العلوم والعلماء والعقلانية والمذاهب الفلسفية والسياسية الحديثة. أى أن هذا المجمع كان ، على حد قول فيليب لو فايان ، "قد زود البابوية بكل الأسلحة العقائدية والدينية التى استخدمها خلفاء البابا بيوس التاسع للحد من ضياع السلطة الزمانية للكنيسة وإضفاء المزيد من السلطات للكرسى الرسولى لصالح الكنيسة العالمية لمواجهة الأخطاء الداخلية والخارجية" (القاموس التاريخى للبابوية).
ثم قام البابا بيوس العاشر سنة 1903 بإدانة الحداثة والتقدم العلمى فى خطابه الرسولى المعنون "باسندى" إذ كان يرى فيها ملتقى كل الهرطقات العلمية . وفى العام التالى أقر إدانة الأب ألفريد لوازى (A. Loisy) وحرمانه فى 7 مارس 1908 لأنه تجرأ وكتب العديد من الأبحاث التى تهدم القواعد الأساسية للعقيدة المسيحية ، ومن أهمها كتابه المعنون "الإنجيل والكنيسة ". وهبّت الصحافة فى مختلف البلدان الأوروبية وتوالت الأبحاث ضد ما أطلقوا عليه "إمبريالية الفاتيكان وطغيانه" .
ونطالع فى الموسوعة "الكاثوليكية أمس واليوم وغدا" (1981): " أن الحداثة تعنى أزمة دينية هزت بعمق أركان الكنسية الكاثوليكية خلال العقد الأول من القرن العشرين ، و قد تم استخدام عبارة الحداثة منذ القرن التاسع عشر للإشارة إلى الإتجاهات المعادية للمسيحية فى العالم الحديث وراديكالية علماء اللاهوت الأحرار. فعندما اندلعت داخل الكنيسة الكاثوليكية فى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حركة تطالب بإصلاح الكنيسة وعقيدتها لتتأقلم مع العلوم الحديثة ، قام المدافعون عن الأصول الكنسية باستخدام هذه العبارة لفضح تطرفات العصرية ، وخاصة الإنحرافات التى كان أعداء الداخل من الكاثوليك يحاولون غرسها فى الكنيسة باسم متطلبات الحضارة العصرية "الملطخة بالعقلانية والمادية" . ومنذ عام 1907 ، فى الخطاب الرسولى المعنون "باسندى" تحدد معنى هذه العبارة ليشير إلى مجموعة من الأخطاء العقائدية التى تمثل نهاية مطاف الإتجاهات المنشقة لهذه الحركة ".
ويمكن إيجاز معنى الحداثة بأنها مجمل المذاهب والإتجاهات المتعلقة بتجديد اللاهوت والتفسير ومراجعة النصوص الدينية وإدارة الكنيسة ، لوضعها فى توافق مع متطلبات العلم و العصر، فهى كلمة نتجت عن اللقاء العنيف للتعليم الكهنوتى التقليدى مع العلوم الدينية الحديثة التى تكونت بعيدا عن الرقابة الأصولية وفى إتجاه مغاير لها. فهى تيار لنقد الدين والمطالبة بضرورة عمل إصلاح للتعليم الكاثوليكى . وهذا التيار لا يمس علاقات الكنيسة بالحياة الأخلاقية والسياسية والإجتماعية وحدها ، وإنما يمس المبادئ العقائدية نفسها : فالمطلوب تحديثه هو مفهوم وبنية العقيدة ذاتها لكى تتمشي مع المنطق . لذلك أطلق عليها البابا "أنها ملتقى كل الهرطقات" ، لأنها حركة تضرب الأساسات الراسخة للعقيدة برمتها .
ولجأت الكنيسة فى ردها لمحاصرة وإقتلاع الحداثة إلى عدد مهول من رجال الكهنوت والعلمانيين للرد على علماء الحداثة ، وأقامت "المؤتمر العالمى الخامس للمسيحية والتقدم الدينى" عام 1910 فى برلين ، ثم المؤتمر السادس عام 1913 فى باريس. كما لجأت الكنيسة إلى الإعتقالات والإغتيالات وإلى فرض قَسَم "الولاء للكنيسة ومعاداة الحداثة" الذى أصدره البابا بيوس العاشر فى سبتمبر 1910 ، وفرضه على كافة العاملين بالمؤسسة الكنسية و على طلبة الإكليروس بل وعلى الباحث عن وظيفة !
ويعد كتاب جان ريفيير (J. Rivière) "الحداثة فى الكنيسة" (1929) ، ويقع فى 589 صفحة ، من المراجع الأساسية التى تناولت موضوع الحداثة من مختلف جوانبه ، كما يتضمن كشفا بأهم المراجع التى تناولت هذا الموضوع ويقع فى 17 صفحة...
وامتدت أزمة الحداثة إلى معظم بلدان أوروبا وكانت كافة المحاور المطروحة تنصب حول مكونات العقيدة ، والإعتراض على سلطة البابا وعلى معصوميته من الخطأ ، وإنتقاد التفسير اللاهوتى والكيان الكنسى ، وألوهية المسيح وعقيدة وجوده الفعلى فى القربان المقدس . فلم يعد من الممكن تقبّل العقيدة المسيحية لا بالعقل و لا بالمنطق . لذلك لا بد من توضيح أن إستخدام كلمة "الحداثة " فى مجال الإسلام هو أمر مرفوض تماما لأن الإسلام لم يتعرض لما عانت ولا تزال تعانى منه النصوص المسيحية من تعديل وتبديل وتزوير ..