العصرية
العصرية :
تمثل كلمة العصرية (Modernité) خلفية محورية متعددة الملامح وكثيرا ما يتم خلطها بالحداثة (Modernisme)والأصولية (Fondamentalisme). وهى تعنى أيضا أزمة الكنيسة مع العلم فى فترة سابقة على الحداثة ، وإن كانت العصرية تشير إلى الجانب الكنسى وكشف التحريف الذى تغص به نصوص الكتاب المقدس ، إلا أنها تتضمن معنى التقدم المادى وإنعكاسه على المجتمع الغربى. أما فى المستعمرات وبلدان العالم الثالث ، فهى تعنى عملية غرس الثقافة الغربية مع تدمير التراث المحلى . وعادة ما تتولاها البعثات التبشيرية أو تقوم بجانب كبير منها .. ومن أهم العناصر التى تمثل الخلفية العامة للعصرية هى عصر التنوير ـ كما رأينا بعاليه ، والثورة الفرنسية ، والليبرالية . وذلك لإرتباطها المباشر بخبايا الأصولية وأبعادها .
وتستخدم كلمة العصرية إشارة إلى الزمن الراهن للمتحدث ، وما ينعم به من إنجازات جديدة للتقدم العلمى والتقنيات ؛ والأشخاص الذين يلتزمون بكل ما هو معاصر لهم ؛ وفى مجال تاريخ الأدب إشارة إلى المعاصرين ، على خلاف القدامى والكلاسيكيين ؛ وفى مجال التاريخ إشارة إلى التاريخ الحديث الذى يبدأ من أواخر القرون الوسطى . وازداد إلتصاقها بالمفهوم الدينى عام 1909 عند إستخدامها فى الخطاب العام فى خضم أحداث المعركة الطاحنة بين الحداثة والأصولية ، وتوارت عن الخطاب الدينى تقريبا عند استتباب كلمة الحداثة .
والعصرية لا تشير إلى مفهوم إجتماعى بعينه ولا إلى مفهوم سياسى محدد ، بل ولا ترمى إلى مفهوم تاريخى بمعنى الكلمة. أى أنها كلمة تتعارض مع مختلف الثقافات السابقة أو التراثية. ولا توجد قوانين للعصرية ولا ملامح ثابتة لها فى كل مجال ، وإنما هناك ما يمكن أن نطلق عليه منطق العصرية أو الأفكار المحركة لها.
وكانت معركة "القدامى والعصريين" تتواصل بشقيها ، الجانب الأدبى والجانب الدينى ، أو الصراع بين البلاط والكنيسة، ذلك الصراع الذى لم يهدأ وإنما كان يشرئب ويخبو وفقا للأحداث و التحالفات. وسبقتها معركة "الطمأنينة"، وهى معركة دينية تعبدية أقرب ما تكون للتصوف الإسلامى ، قام البابا إينوسنت الحادى عشر بإدانتها عام 1687، ، وتبعه البابا إينوسنت الثانى عشر بإدانتها عام 1699 باستصدار وثيقة محاكم التفتيش التى تتضمن 68 إتهاماً لأتباعها الذين تمت إبادتهم عن آخرهم . وكانت القضية الحقيقية متعلقة بمصداقية النصوص الإنجيلية والمطالبة بالإبتعاد عنها بما يسمح بدخول الفكر الإسلامى العربى من إسبانيا عن طريق الأب مولينوس ، وهذه قضية أخرى ..
وقد واكبت هذه المعركة الفترة المعروفة باسم صحوة العقل الفلسفى والدفاع عن السلطة الأخلاقية للإنسان كنقيض للإنسان الخاضع للكنيسة أو للسلطة الكنسية. وقد أدى تقدم العلوم اللغوية والأبحاث فى القرن السادس عشر إلى أن تقدم مارتن لوثر فى 31 أكتوبر 1517 بإعلان بيانه فى ويتنبرج ، متضمنا 95 إدانة للكنيسة الأم ، أدت إلى ذلك الصراع الدامى الذى امتد قرونا وكانت له إنعكاساته على الجانب الكاثوليكى الذى لجأ إلى عقد مجمع ترانت (1545ـ1563) لرأب ذلك الشرخ الغائر وتثبيت عقيدة الإيمان وفرضها بكل ما اعتراها من تغيير وتبديل على مر المجامع .
فالعصرية ليست مجرد تلك الإنقلابات التقنية والعلمية والسياسية منذ القرن السادس عشر كما هو شائع ، أو كما يتم قوله لطمس أسبابها الدينية ، وإنما هى أساساً حركة تضم الصراع العقائدى وكل ما أدى إلى تغيير البنية الأساسية للمجتمع وللكنيسة بصفة خاصة.