الفرق بين التفويض والكف عن التكييف والتمثيل
الفرق بين التفويض والكف عن التكييف والتمثيل
وهنا يجب التفريق بين التفويض الذي يقصدونه وبين ما ثبت عن السلف من الكف عن التكييف والتمثيل فهذا قد يسمى تفويضا ولكنه تفويض للكيفية لا للمعنى . فالسلف يثبتون معاني صفات الله تعالى على حقيقتها المعروفة التي يعرفها كل من يعرف اللغة العربية ولكن يفوضون العلم بكيفية هذه الصفات إذ أن ذلك لا تهتدي إليه العقول كما قال تعالى : ﴿ولا يحيطون به علما﴾[طه : 110]. ولذلك كانوا يقولون: أَمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف [1]. ففي الجنة من النعيم ما وصفه الله في كتابه ﴿من ماء غير آسن وأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه وأنهارٌ من خمر لذة للشاربين وأنهارٌ من عسل مصفى﴾ [محمد : 15] . ومع ذلك فليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء كما قاله ابن عباس t . فهل يعني ذلك أن ننفي وجود الماء واللبن والخمر والعسل في الجنة ؟ كلا ، هي كذلك على حقيقتها ولكنا لا نعلم كيفيتها كما قال سبحانه :﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ [السجدة : 17] .
أَفَتَرَى زينبَ بنْتَ جحشٍ رضي الله عنها حين تقول للرسول ^: "زوجنيك الرحمن من فوق عرشه" وفي رواية :"إن الله أنكحني في السماء"[2] لا تعرف معنى أن الله في السماء فوق العرش ؟ .
أو أن عائشة رضي الله عنها حين قالت في شأن قتل عثمان: "علم الله فوق عرشه أني لم أحب قتله"[3] لا تعرف أين ربها بل تفوض معنى ذلك ؟
أو ليس عبد الله بن عباس هو الذي قال لها رضي الله عنهما: "كنتِ أحبَّ نساء رسول الله ^ ولم يكن يحب إلا طيبا ، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات"[4] ؟
أو أن عمر بن الخطاب t حين قال لخولة بنت ثعلبة : "هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات"[5] أو حين استقبله الناس بالشام وأشاروا له أن يركب بِرْذَوْناً يلقاه عظماء الناس فقال لهم : أريكم ههنا ؟ إنما الأمر من ههنا ! وأشار إلى السماء .[6] أتظن أنه لا يعرف أين ربه؟.
أو أن عبد الله بن مسعود t حين قال : "العرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"[7] يفوض معنى أن الله فوق العرش ؟!.
بل الأحاديث النبوية الصحيحة تؤكد أن الرسول ^ عرف معنى الصفات وأثبتها لله تعالى وعلّم أصحابه هذا الإثبات . ومن الأمثلة على ما نحن بصدده من إثبات العلو والاستواء ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد t عن النبي ^ :"ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ؟"[8]
وما أخرجه مسلم من طريق أبي هريرة عن النبي ^ قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها زوجها"[9].
وما أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ^: "الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" .[10]
والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة جدا يمكنك مراجعتها مع ما يَعْضُدُها من الآثار السلفية من أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى علماء القرن السابع في كتاب العرش للإمام الذهبي وكتابه الآخر "العلو" والذي طبع مختصره باسم "العلو للعلي الغفار"[11]. ولا تفوتنك قراءته فإنه كتاب نفيس .
---------------------------------------
[1] التمهيد لابن عبد البر 7/149 .
[2] صحيح البخاري ، ك التوحيد ، باب 22 ، ح7420.
[3] أخرجه الدارمي في كتاب الرد على الجهمية (ص27) وإسناده صحيح .
[4] أخرجه الإمام الدارمي في "الرد على بشر المريسي" ص105 وفي "الرد على الجهمية" ص27-28 ، وأورده الذهبي في كتاب العلو وقال المحدث الألباني سنده صحيح على شرط مسلم (مختصر العلو ص130).
[5] تفسير القرآن العظيم للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير ، دار المعرفة ، بيروت، لبنان ، ط. الأولى ، 1407هـ/1987م ، 4/341.
[6] أخرجه الدارمي في مسنده (105) وفي كتاب الرد على الجهمية (26) وقال الحافظ الذهبي إسناده كالشمس ، وقال الألباني هو على شرط البخاري ومسلم. مختصر العلو ص 103.
[7] رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات (401) وابن خزيمة في كتابه (ص70) ووالدارمي في المسند (ص105) ورواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/213) عن عمر بن الخطاب . وإسناده صحيح كما قال الذهبي في كتاب العلو (ص103) وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص100) وابن عبد البر في التمهيد (7/139).
[8] صحيح البخاري ، ك المغازي ، باب 62 ، ح 4351 ، وصحيح مسلم ، ك الزكاة ، باب 47 ، ح 1064.
[9] صحيح مسلم ، كتاب النكاح ، باب 19 ، ح 1436.
[10] سنن أبي داود ، ك الأدب ، باب 66 ، ح 4941 وسنن الترمذي ، ك البر والصلة ، باب 16 ، ح 1931 وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وانظر تخريجه في السلسلة الصحيحة (922).
[11] هذا الكتاب وُجدت نسخته الخطية بخط أحمد بن زيد المقدسي وذكر أنه نقلها من خط المؤلف . ثم طبع في الهند عام 1306هـ ، وطبعه السيد رشيد رضا عام 1332هـ عن الطبعة الهندية ، ثم طبعته جماعة أنصار السنة بالقاهرة بتعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي عام 1357هـ ، ثم نشرته المكتبة السلفية في المدينة النبوية عام 1388هـ بعناية الأستاذ عبد الرحمن محمد عثمان ، ثم عني به الشيخ الألباني فحققه وخرجه واقتصر فيه على المرويات الصحيحة ، وصدر عن المكتب الإسلامي . ثم ظهرت طبعة جديدة لهذا الكتاب بعناية محمد حسن محمد حسن إسماعيل عن دار الكتب العلمية عام 1424هـ/2003م .