الفرق بين العبادة السريّة والعلنيّة
قال تعالى
﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) ﴾
النساء
إنّ العباداتِ الخفيّة، وقُرَبَ السّرّ المشتملة على تعظيم الرّبّ وأوامره ونواهيه، والإكثار من مناجاته في الخلوات، لتفضل الأعمال الجليّة غير الفرائض الظّاهرة، فضلا عظيما يجده العبد صقلا في قلبه من أدران الرّياء، والتّطلع لحبّ الثناء من الناس فعن الزّبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((من استطاع منكم أن يكون له خِبءٌ من عملٍ صالحٍ فليفعل))
، فقد جاء التّوجيه النّبويّ الكريم بحثِّ العبد المؤمن على أن يكون له عبادة في السِّر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إنّ العبد إذا صلّى في العلانية فأحسنَ، وصلّى في السّرّ فأحسن - قال الله عز و جل: هذا عبدي حقًّا))
، قال الملا القاري: ولعلّ هذا هو السّرّ في حثّه أن تُصَلّى السّنن والنّوافل في البيت.
وعَنْ عَامر بن سعد بنِ أَبي وَقّاص عن أبيه رضي الله عنه:سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
((إِنهَا سَتَكُونُ بعدِي فِتَن، أَو قَالَ:أُمُور، خَيرُ اَلنّاسِ فِيهَا اَلغَنِي اَلخَفِيُّ اَلتَّقِيُّ)) .
نعم إنّهم الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، شغلوا أنفسهم بالله، فازدادوا له إخباتا وطاعة، وعرفوا أنفسهم وكيدها فازدادوا لها إذلالا لمعبودها. فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
((إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى للهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ))
أخرجه ابن ماجة (3989).
ويحكي الخُرَيْبِي عن السّلف أنّهم" كانوا يستحبّون أن يكون للرّجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها"،
وقال مسلم بن يسار: (ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عزّ وجل).
ويقول وهب بن منبه رحمه الله تعالى: "يا بُنيّ أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق اللهَ فيها فعلُك في العلانية، ولا تظننّ أنّ العلانية هي أنجح من السَّريرة، فإن مَثَلَ العلانية مع السَّريرة كمَثَلِ ورق الشّجر مع عِرْقها: العلانية ورقها، والسَّريرة عِرْقها، إن نُخِر العِرْق هلكت الشّجرة كلّها؛ ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشّجرة كلّها؛ ثمرها وورقها، فلا يزال ما ظهر من الشّجرة في خير ما كان عِرْقها مستخفياً لا يُرى منه شيء. كذلك الدّين لا يزال صالحاً ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانيته، فإنّ العلانية تنفع مع السَّريرة الصالحة كما ينفع عِرْقَ الشجرة صلاحُ فرعها، وإن كان حياتها من قبل عِرْقها فإنّ فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السَّريرة هي ملاك الدين فإن العلانية معها تُزَيِّن الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه- عز وجل.
ومن خواطر ابن الجوزي في صيده قوله: "نظرت في الأدلة على الحق - سبحانه وتعالى - فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أنّ الإنسان يخفي الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدّث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ ليعلم أنّ هنالك ربّاً لا يُضِيعُ عَملَ عاملٍ، وإن قلوب النّاس لتعرف حالَ الشّخص، وتحبّه، أو تأباه، وتذمّه، أو تمدحه وفق ما يتحقّق بينه وبين الله - تعالى - فإنّه يكفيه كلّ همّ، ويدفع عنه كلّ شرّ.
وما أصلح عبدٌ ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحقّ إلاّ انعكس مقصُودُهُ وعادَ حَامِدُهُ ذَامّا".