برنامج الرَّبَّانِيَّةِ مِنَ الكَلِمَاتِ إلى الرِّسَالاَتِ
ماذا بقي لنا بعد هذا؟ بل ماذا بقي علينا؟
فيا صاحبي! ها قد علمتَ ما علمتَ، وها الكلماتُ قد تواترت عن الله، جلَّ عُلاه، وها البيانات قد جاءت كاملة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك ما فيه من العلم بالدين، وبما ترتب عليَّ وعليكَ من حقوق الله رب العالمين!
فماذا حققنا من مقام العبدية للمَلِكِ العظيم؟ وماذا حققنا من الوفاء لخالقنا الكريم؟ في زمان التمرد على الله! والتنكر لحقوق الله! فكيف الحال بنا وها عهدُ الله وميثاقُه الذي واثقنا به، وأشهدنا على أنفسنا به، ها هو ذا شاهدٌ عليَّ وعليكَ برسالات القرآن إلى يوم القيامة!؟ واجباتٍ وأعمالاً، لا تكتمل عبديةُ العبد إلا بها!
وقد تبين من خلال مسالك الفطرية أن واجبات المسلم التربوية والدعوية في هذا العصر ثلاثة، نلخصها الآن تلخيصا موجزا، للتذكير والتيسير؛ فما بقي بعد العلم إلا العمل!
- أولا: التزام "مجالس القرآن" لِتَلَقِّي آيات الرحمن، والتخلق بحقائق الإيمان.
- ثانيا: بلاغ رسالات الله بدعوة الناس إلى الله، وبتكثير سواد "مجالس القرآن"، تأسيساً وتوسيعاً.
- ثالثا: التزام الرباطات، بما فيها من التزامات أربعة، هي: شهود الصلوات والتزام رباطاتها، ومداومة الأذكار، ومقاطعة آلهة العصر الأربعة، وأولها: الشركيات والخرافيات. وثانيها: المال الحرام بكل أصنافه. وثالثها: الزنا ومقدماته، ومظاهره، وأخصها العري الفاحش، والنظر الحرام. ورابعها: الخمر والمخدرات. وأما الالتزام الرابع والأخير فهو: إمساك اللسان عما لا خير فيه من الكلام.
وقد اختصرنا ذلك كله في العبارات المسكوكة التالية: (اغتنام المجالسات، وتبليغ الرسالات، والتزام الرباطات!)
ولا تنس أن تعرض عملك هذا وغيره على أركان الفطرية الستة، فهي موازين قرآنية لتمحيص الأعمال، وهي كما فصلناها من قبل:
1- الإخلاصُ مجاهدةً
2- الآخِرةُ غايةً
3- القرآنُ مدرسةً
4- الربانيةُ برنامجاً
5- العلمُ طريقةً
6- الحكمةُ صبغةً.
فتلك أصول دينية صحيحة، وقواعد تربوية مليحة، عُدَّهَا يا صاحبي عَدّاً، وعُضَّ عليها بِنَوَاجِذِكَ عَضّاً!
ذلك، وإنما الموفق من وفقه الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
برنامج الرَّبَّانِيَّةِ مِنَ الكَلِمَاتِ إلى الرِّسَالاَتِ
"برنامج الربانية" مَسْلَكٌ تربوي، يترجم جزءاً أساسيا من المقاصد التربوية للفطرية إلى الواقع العملي؛ إذ هو يرمي أساسا إلى تخريج الدعاة الذين بإمكانهم الاشتغال بالعمل الدعوي على المنهاج الفطري الذي أصلناه بهذا الكتاب؛ ومن هنا كان مدخله الأساس إنما هو تلقي رسالات القرآن المتعلقة بصفات "الربانية" بما هي إمامة دعوية بالدرجة الأولى كما سترى بحول الله.
ولذلك فقد جعلناه منبنيا على تلقي مجموعة من الحقائق الإيمانية، المستخلصة من الآيات القرآنية والبيانات النبوية، التي تخدم الغرض المقصود. ذلك أن الدين في مجموعه إنما هو رسالة كلية شاملة. لا يستقيم الاشتغال به والدخول إلى فضائه - ديناً ودعوةً - إلا من خلال تلقي خطابه الرسالي حقيقة. ولا يتم ذلك على - المستوى التربوي - إلا بالترقي المتدرج عبر مسالكه درجةً درجةً. وذلك بمدارسة خطابه، لرده إلى وحداته وكلماته. وإنما وحداته مجموعة من الرسائل، بعضها ينبني على بعض، وبعضها يمهد لبعض. ولذلك كان القرآن بهذا المعنى "رسالات"، هكذا بجمع المؤنث السالم.
قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً)
(الأحزاب: 39)
(قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلَاغاً مِّنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ)
(الجن: 22-23).
ثم إن تلقي الرسالات لا يتم إلا بمدارسة خطاب كل رسالة على حدة، وردها – كما ذكرنا - إلى وحداتها التربوية ومكوناتها الابتلائية، وهي المسماة بالكلمات. فكل كلمة من كل رسالة تحمل ابتلاء عمليا تربويا. لا يتم تلقيه والتحقق بخلقه وصفته المفهومية والخلقية، إلا بالعمل والمجاهدة. وهو معنى الابتلاء بالكلمات في قوله تعالى:
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)
(البقرة: 124).
ولذلك كان هذا البرنامج ينطلق في تلقيه لحقائق القرآن – عبر مدارجه التربوية - من الكلمات إلى الرسالات. وذلك هو مسلك القرآن في تخريج أئمة الهدى من الدعاة الحكماء. وهو معنى الربانية.
ومن هنا كان لنا أن نعرف الربانية بأنها:
- مرتبة الإمامة في مجاهدة النفس بالقرآن، على الالتزام بحقائقه الإيمانية، والتخلق بِحِكْمَتِهِ الرحمانية؛ إخلاصاً للهِ أولاً؛ حتى تفنى في دعوتها عن كل حظوظها، فلا يقوم شيء منها إلا لله وبه! ثم شهادةً بذلك على الناس، تربيةً ودعوةً، ثم صبراً واحتساباً.
ولنا أن ندرس حقائق هذا التعريف – بشواهده القرآنية - من خلال العناصر التالية:
1- الربانية توحيد، وإخلاص لله وحده، وتجرد من كل حول علمي، ومن كل قوة مادية، وكل جاه اجتماعي أو سياسي، وتبرؤ من الشرك والشركاء. والاستمداد فيها إنما هو من الله، ومن الله وحده. فهي مدرسة لإقامة الدين لله، على موازين الفطرة الخالصة، ومجاهدة دائمة للنفس؛ أن تنحرف عن قصد التعبد الخالص في الدين والدعوة، فتزيغ بها الأهواء إلى مراعاة الحظوظ الخسيسة، من شهوات الشهرة، ومفاتن المال والأعمال، ومراتب المناصب والألقاب! وغير ذلك من الخوارم المهلكة للدين والدعوة جميعا!
فإنما الربانية في الدعاة إمامة تربوية شاملة، لا يجوز أن تخرج أبدا عن فَلَكِ (إياك نعبد وإياك نستعين)؛ ولذلك فهي لا تقوم إلا لله، ولا تستقيم إلا بهِ جَلَّ عُلاه، عِلْمِيّاً ودعويا. فأول مدارجها تحقيق العبدية الكاملة لله، وتجريد القلب من سائر الأغيار والأكدار، والتخلق بأخلاق القرآن الخالصة لله الواحد القهار! ولذلك كان مأخذها من كتاب الله، تعلما وتعليما وتدارساً وتزكيةً. فهي مسلك تعليمي تربوي مأمور به شرعا؛ لرعاية حقوق الله وحفظ حقائق الإيمان في الناس.
قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)
(آل عمران:79-80).
2- الربانية أمانة، فالربانيون هم الأمناء على وظائف النبوة، المستحفظون على أحكام الشريعة، ملتزمون بمقتضاها، لا يلتجئون إلى سواها. شهداء على ذلك عند الله وأمام الناس.
قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً)
(المائدة:44).
3- الربانية دعوة إلى الخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. فالربانيون دعاة إلى الله بالحكمة، صابرون على ما أصابهم في سبيل الله، محتسبون ذلك عند الله.
قال تعالى: (وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ. وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)
(المائدة: 61-63).
وقد جمع الإمام الرباني ابن القيم - رحمه الله - تلك الصفات جميعا في بيان مفهوم العالم الرباني، وذلك في نص فريد قال فيه: (جهاد النفس أربع مراتب (...).
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتَها عِلْمُه شقيت في الدارين. الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها. الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله. الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين. فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويُعَلِّمَهُ. فمن عَلِمَ وعَمِلَ وعَلَّمَ فذاك يُدْعَى عظيما في ملكوت السماوات!)([1]).
كما دبَّج شيخُ المقاصد الإمامُ أبو إسحاق الشاطبي، كلاما نفيساً في بيان رتبة الإمامة في التحقق بالمعاني الشرعية، وحِكَمِهَا التربوية، لتخريج العالم الرباني، فقال - رحمه الله - في تعريفه: إنه الذي (يَتَحَقَّقُ بالمعاني الشرعيةِ مُنَـزَّلَةً على الخصوصياتِ الفرعيةِ، بحيثُ لا يَصُدُّهُ التَّبَحُّرُ في الاِسْتِبْصَارِ بِطَرَفٍ؛ عَنِ التَّبَحُّرِ في الاِسْتِبْصَارِ بالطَّرَفِ الآخَرِ. فلاَ هو يَجْرِي عَلَى عُمُومٍ وَاحِدٍ منهما دون أنْ يَعْرِضَهُ علَى الآخَرِ. ثم يَلْتَفِتُ معَ ذَلِكَ إلى تَنَـزُّلِ مَا تَلَخَّصَ لَهُ على ما يليقُ في أفعالِ المكلَّفِين. (...) ويُسَمَّى صاحبُ هَذِهِ المرتبةِ: الرَّبَّانِيُّ، والْحَكِيمُ، والرَّاسِخُ في العِلْمِ، والْعَالِمُ، والفَقِيهُ، والعَاقِلُ؛ لأنه يُرَبِّي بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، ويُوَفِّي كُلَّ أحَدٍ حَقَّهُ حسبما يليق به! وقد تَحَقَّقَ بِالْعِلْمِ وصَارَ لَهُ كالْوَصْفِ الْمَجْبُولِ عَلَيْهِ، وفَهِمَ عَنِ اللهِ مُرَادَهُ. ومِنْ خَاصَّتِهِ أمْرَانِ، أحدُهُمَا: أنَّهُ يجيب السَّائِلَ على ما يليق به في حالتِه على الخصوص، إن كان له في المسألة حُكْمٌ خَاصٌّ (...) والثاني: أنه نَاظِرٌ في المآلاَتِ قَبْلَ الجوابِ عن السُّؤَالاَتِ!)([2])
وبرنامجنا هذا وإن لم يطمح – بطبيعته - إلى تخريج الربانية العلمية، على وزان ما قرره هؤلاء الأئمة الأعلام، فعسى ألا يقصر عن إخراج الربانية التربوية أو الدعوية، ثم عسى أن يكون - بذلك - مدخلا للربانية العلمية والإمامة الكاملة في الدين. ذلك، وإنما الموفق من وفقه الله. ولا حول ولا قوة إلا به وحده جل علاه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.
المراجع
- زاد المعاد: 3/10.
- الموافقات:4-232.