تبصرة: كيف تذكر الله؟
الدكتور / فريد الأنصاري
لا يكون لك انطلاق حقيقي إن لم تحقق هذا الأمر أولاً، وهو جواب: كيف يكون الذكر؟ ما طبيعته؟ ما مادته؟ ما ظروفه؟ ما مسلكه؟
ذكر الله عبارة عن غذاء تعبدي تنتفع به النفس، وتقوى على السير إليه تعالى. وبدونه قطعاً لا يكون شيء! لا سير ولا وصول! وإنما أعمال الإسلام كلها ذكر: بدءا بالإقرار بالشهادتين حتى الصلاة والصيام والزكاة والحج وما تفرع عنها جميعاَ من صالح الأعمال، سواء في ذلك الواجبات والنوافل. وعلى هذا يحمل قوله تعالى {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين}
.
{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}
فالذكر هنا هو الإيمان والإسلام. وإنما سمي ذكراً: لأنه إقرار بما عهد الله إلى بني آدم في عالم الدر من التوحيد، وبما طبع عليه فطرتهم من الإيمان السابق إلى النفس ابتداء. {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكمقالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}
{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}
وبهذا المعنى لم يكن الدين كله إلا (ذكراً) ولم تكن مهمة الرسل إلا (تذكيراً)، تذكيراً بالعهد الأول، الذي أخذه الله على بني آدم في الوجود النفسي من عالم الغيب. وبهذا المعنى أيضاً لم يكن الرسول ـ أي رسول ـ إلا (مذكراً)! ولذلك قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم بأسلوب الحصر هذا:
والناس عندما يتذكرون حقيقة وجودهم، وطبيعته الابتلائية؛ يشرعون في العودة إلى خالقهم عبر مدارج الدين. فالمؤمن الحق هو الذي يذكر هذه الحقيقة؛ فلا يغره الرخاء ولا تزلزله المصيبة.
بل إنه عند المصيبة يتقوى بهذه الحقيقة:العودة إلى الله عالم الغيب الذي منه كان البدء. وتلك هي كلمة {إنا لله وإنا إليه راجعون}
، التي تقال عند وقوع البلاء
{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}
لكن قد يطلق لفظ (الذكر) في الشرع بمعنى أخص، فيقصد به ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم من العبادات القولية، أو اللسانية، التي يرددها العبد في أوراده اليومية، ويتحرك بها لسانه تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً، ونحو ذلك . وهو المراد ـ مما سبق إيراده ـ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الصحابي الجليل عبد الله بن بس رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي! فأخبرني بشيء أتشبث به! قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله!
إلا أن هذا المعنى الخاص لا يخرج عن المعنى الكلي الذي يراد به تذكر الحقيقة الإيمانية الكبرى التي هي مناط الدين كله، والراجعة إلى توحيد الله في ربوبيته وألوهيته. فوظيفة الذكر بهذا المعنى الخاص هي تجديد معنى الإيمان فيالنفس، وترسيخها عليه، وترقيتها بمدارجه ومراتبه؛ حتى تكون من أهل البصائر، ومشاهدة الحقائق في الآيات القرآنية والكونية.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور: لا يزال لسانك رطباً من ذكرالله دال على الاستمرار، فعبارة (لا يزال) تدل ـ في اللغة العربية ـ على بقاء ما دخلت عليه، وتحكم بدوامه. وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لأن النفس في سيرها إلى مولاها ـ بعد إيمانها وصلاحها ـ قد تمل وتفتر، أو تصيبها الوحشة، أو قد تغفل ؛ فتشرد وتضل وتضطرب، فتحتاج إلى تذكير دائم يجدد لها إيمانها ويزكيه، حتى تطمئن أحوالها؛ ومن هنا قوله تعالى في هذه الآية اللطفية العجيبة: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}
وقول النبي صلى الله عليه وسلم
مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت!.
فالذكر إذن: حضور واستحضار. فالحضور حضور القلب بين يدي الله تعالى عابداً متبتلاً والاستحضار : مطالعة الروح لمقاصد العبارات من الأذكار والآيات، وتبين آثارها في النفس، وتتبع مشاهدها في الكون؛ تفكراً وتدبراً. وذلك معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (الإحسان): أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك! أما ترديد الآيات، وترجيع العبارات بلسان غير موصول بالقلب؛ فعمل عديم الفائدة وما الذكر إن لم يكن تذكيراً لغائب المعاني، وشارد المقاصد؟ تتذكر ماذا إذن وتشاهد؟ كيف تبصر وأنت تلقي بالكلمات في تيه العمى! لا بد من مطابقة التعبير للتفكير ؛ وإلا فلا ذكر!
ولك أن تشاهد أحوال من سماهم الله تعالى بأولي الألباب :
{الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار}
ذلك قلب العبد المحب له واردان اثنان : لسان يتذكر وذهن يتفكر! وبهما معاً تنفتح له نوافذ المشاهدات ملء الكون! فكل كلمة من الذكر تنساب على اللسان هي سفينة فضائية، تحملك عروجاً إلى الرحمن، عبر ملايين الأفلاك والمجرات، فتخترق بك الطبقات تلو الطبقات من المدارات والفضاءات! فأعظم بها سياحة الذاكرين! في رياض الملك والملكوت!
هنا إذن؛ تحضر أهمية مجالس القرآن، حيث تنفع المذاكرة والمدارسة في تلقي منهج التفكر والتدبر؛ فاسلك مجلس الذاكرين الربانيين، وادخل مدرسة البصائر، وتعلم كيف تتذكر! إن كلمة واحدة من التسبيح، أو التهليل، أو التكبير؛ لكفيلة بأن تلقي بك في فضاءات أخرى، تبعد عن كوكب الأرض بملايين السنين الضوئية! وتدبر هذا الحديث النبوي العجيب: وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض فاركب سفينة الذكر يا صاح ثم انطلق!
ثم يحسن بك أيضا أن تقرأ ما أوردناه بالهوامش ـ أسفله ـ من تأصيل عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الآيات المعنية، وصيغ الأذكار النبوية المختارة، فهو من خير ما يساعد المؤمن على استحضار مقاصد الذكر عند كل عبارة.
ولك في هذه الإشارات ـ إن شئت ـ بدايات. وذلك من أجل تبين مسلك تطبيقي للذكر. ولنجعله على قسمين: الأول ذكر قرآني، وهو في بيان كيفية الاشتغال بالقرآن باعتباره (ذكراً). والثاني: ذكر نبوي، وهو بيان منهج التعامل مع الصيغ السنية في ذكرالله تعالى.