ذكر كلمات عن أرباب الطريق فى الفقر والغني
ذكر كلمات عن أرباب الطريق فى الفقر والغني
قال يحيى بن معاذ: الفقر أن لا تستغنى بشيء غير الله ورسمه عدم الأَسباب كلها. قلت: يريد عدمها فى الاعتماد عليها والطمأْنينة بها، بل تصير عدماً بالنسبة إِلى سبق مسببها بالأوَلية، وتفرده بالأَزلية. وسئل محمد بن عبد الله الفرغانى عن الافتقار إِلى الله [تعالى] والاستغناء به فقال: إِذا صح الافتقار إِلى الله تعالى صح الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به صح الافتقار إِليه، فلا يقال أَيهما أَكمل لأَنه لا يتم أَحدهما إِلا بالآخر. قلت: الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إِليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأَن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إِليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أَحدهما على الآخر، وإِنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إِليه، فهى حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى "غنى" بالنسبة إِلى فراغه عن الموجودات الفانية، و"فقراً" بالنسبة إِلى قصر همته وجمعها على الله [عز وجل]، فهى همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إِلى الله فقر، فإِذا وصلت إِليه استغنت به بكمال فقرها إِليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإِنما يكمل فقرها بهذا الوصول. وسئل رويم عن الفقر فقال: إِرسال النفس فى أَحكام الله تعالى. قلت: إِن أَراد الحكم الدينى فصحيح، [أو] إِن أَراد الحكم الكونى القدرى فلا يصح هذا الإِطلاق بل لا بد فيه من التفصيل كما تقدم بيانه. وإِرسال النفس فى أَحكامه التى يسخطها ويبغضها، وإِرسالها فى أَحكامه التى يجب منازعتها ومدافعتها بأَحكامه خروج عن العبودية.
وقيل: نعت الفقير ثلاثة أَشياءَ: حفظ سره، وَأَداءُ فرضه وصيانة فقره.. قلت: حفظ السر كتمانه صيانة له من الأَغيار، وغيرة عليه أَن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه. وَأَداءُ الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأَغيار، وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع. وقال إبراهيم بن أَدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر. وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: هو الأَمن بالله عَزَّ وجَلَّ. وسئل أَبو حفص: بماذا ينبغى أَن يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما ينبغى للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره. وقال بعضهم: إِن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذراً أَن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغنى الحريص من الفقر أَن يدخله فيفسد عليه غناه. وقال بشر بن الحارث: أَفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر. قلت: ومن هاهنا قال القائل:
قالوا: غدا العيد ماذا أَنت لابسه؟ فقلت: خلعة ساق رحبه جرعا
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما قلب يرى أُلفة الأَعياد والجمعا
الدهر لى مأْتم إِن غبت يا أَملى والعيد ما دمت لى مرَأى ومستمعا
وسئل ابن الجلاءِ: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إِذا لم يبق عليه بقية منه. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. قلت: معنى هذا أَنه لا يبقى عليه بقية من نفسه، فإِذا كان لنفسه فليس لها بل قد أَضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها. وإِذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له، وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أَنفسهم.
وقيل: حقيقة الفقر أن لا يستغنى الفقير فى فقره بشيء إلا بمن إليه فقره. وقال أَبو حفص: "أحسن ما توسل به العبد إِلى مولاه دوام الفقر إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السنة فى جميع الأَفعال، وطلب القوت من وجه حلال". وقال بعضهم: "ينبغى للفقير أَن لا تسبق همته خطوته". قلت: يشير إلى تعلق همته بواجب وقته، وأَنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله. وأَيضاً يشير إلى قصر أَمله، وأَن همته غير متعلقة بوقت لا يحدّث نفسه ببلوغه وأَيضاً يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت، وأن لا يضعفها بتقسيمها على الأَوقات.
وقيل: أَقل ما يلزم الفقير فى فقره أَربعة أَشياءَ: علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه. وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربى: إنما هو فقر وذل. فقال منصور: بل فقر وعز. فقال أَبو سهل: فقر وثرى، فقال منصور: بل فقر وعرش. قلت: أَشار أَبو سهل إِلى البداية ومنصور إِلى الغاية. وقال الجنيد: إِذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه. فقلت: يا أَبا القاسم، كيف يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، الفقير إِذا كان صادقاً فى فقره، فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص فى النار. وقال أبو المظفر القرميسينى: الفقير هو الذى لا يكون له إِلى الله حاجة. قال أَبو القاسم القشيرى: وهذا اللفظ فيه أَدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم، وإِنما أَشار قائله إِلى سقوط المطالبات، وانتفاءِ الاختيار، والرضى بما يجريه الحق سبحانه بتارك وتعالى. قلت: وبعد فهو كلام مستدرك خطأٌ فإِن حاجات هذا العبد إِلى الله بعدد الأَنفاس إِذ حاجته ليست كحاجات غيره من أَصحاب الحظوظ والأَقسام، بل حاجات هؤلاءِ فى حاجة هذا العبد كتفلة فى بحر، فإِن حاجته إِلى الله فى كل طرفة عين أَن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه فى مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأَوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها، فأَى حاجات أَكثر وأَعظم من هذه؟ فالصواب أَن يقال: الفقير هو الذى حاجاته إِلى الله بعدد أَنفاسه أَو أَكثر، فالعبد له فى كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إِلى الله لا يشعر بكثير منها، فأَفقر الناس إِلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها، وإِن كان لا بد من إِطلاق تلك العبارة على أَن منها كل بد فيقال: هو الذى لا حاجة له إِلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إِلى منزلة الاستغناء، وأَما أَن يقال لا حاجة له إِلى الله فشطح قبيح. وأَما حمل أَبِى القاسم لكلامه على إِسقاط المطالبات وانتفاءِ الاختيار والرضى بمجارى الأَقدار فإنما يحسن فى بعض الحالات، وهو فى القدر الذى يجرى عليه، بغير اختياره ولا يكون مأْموراً بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدم. وأَما إِذا كان مأْموراً بدفعه ومنازعته بقدر هو أَحب إِلى الله منه- وهو مأْمور به أَمر إِيجاب أَو استحباب- فإِسقاط المطالبات وانتفاءُ الاختيار فيه والسعى عين العجز، والله تعالى يلوم على العجز. وقال ابن خفيف: الفقر [عدم الأملاك، والخروج عن أحكام الصفات، قلت: يريد عدم إضافة شيء] إِليه إِضافة ملك، وأَن يخرج عن أَحكام صفات نفسه ويبدلها بأَحكام صفات مالكه وسيده مثاله أَن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التى توجب له دعوى الملك والتصرف والإِضافات ويبقى بأَحكام صفة القدرة الأَزلية التى توجب له العجز والفقر والفاقة، كما فى دعاءِ الاستخارة: "اللَّهم إِنى أَستخيرك بعلمك، وأَستقدرك بقدرتك وأَسأَلك من فضلك العظيم، فإِنك تقدر ولا أَقدر، وتعلم ولا أَعلم وأَنت علام الغيوب"، فهذا اتصاف بأَحكام الصفات العلى فى العبد، وخروج عن أَحكام صفات النفس.
وقال أبو حفص: لا يصح لأَحد الفقر حتى يكون العطاءُ أَحب إِليه من الأَخذ وليس السخاءُ أَن يعطى الواجدُ المعدمَ، وإِنما السخاءُ أَن يعطى المعدمُ الواجدَ. وقال بعضهم: الفقير الذى لا يرى لنفسه حاجة إِلى شيء من الأَشياء سوى ربه تبارك وتعالى. وسئل سهل بن عبد الله: متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الذى هو فيه. وقال أبو بكر ابن طاهر: من حكم الفقير أَن لا يكون له رغبة، وإِن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال: الذى لا يَملك ولا يُملك وقال ذو النون: دوام الفقر إِلى الله مع التخليط أحب إلى من دوام الصفاء مع العجب والله أعلم.