سر عبادة السلف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
منذ سنوات وإلى يومنا هذا وأنا أسمع وأقرأ قصصاً كثيرة عن السلف، هي قصص حقيقية ولكن بعضها أشبه بالخيال ،فسمعت وقرأت أن أحد السلف صلى العشاء ثم قام بعدها يصلي من الليل حتى دخل وقت صلاة الفجر ،وآخر صلى العشاء ثم قام يردد آية في صلاته حتى دخل وقت صلاة الفجر،،وآخر لم تفته تكبيرة الإحرام مع جماعة المسلمين طيلة أربعين سنة من حياته،،وآخر يصوم النوافل مدة أربعين سنة دون أن تعلم عنه زوجته وهي أقرب الناس إليه،،،وغيرها من هذه القصص الكثيرة والنماذج الرائعة،،
حقيقة ياأحبة جلست أسأل نفسي من منا يطيق هذا العمل،،؟ وأنه من النادر جداً أن تجد شخصاً في زمننا هذا يفعل مثل فعلهم ويقوم كقيامهم،،وإنه والله لأمر عجباً،،،
ثم جلست أحدث نفسي وأقول لها :ما الذي يمنع أن نكون مثلهم فكلنا بشر وأصلنا من تراب وخلقنا من ماء مهين،،ولا مزية بيننا وبينهم بل وكلنا نشترك في قول الله تعالى "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا.." ،خرجنا من بطون أمهاتنا جميعاً لا نعلم شيئا بتاتاً ثم يبدأ المرء بعد ذلك في التعلم والتعليم حتى يصل إلى غايته وإلى ما يريد،، معنى ذلك أن هناك سر جعل بعضاً من السلف يطيق بل ويستمتع ويتلذذ بعبادته ولو طالت بل تجده في عبادته مع ربه ولايشعر بالوقت حين يمضي،،
وحقيقة يا أحبة أرقني البحث عن سر عبادة السلف هذه وكيف هم يطيقون مايفعلون من العبادات الشاقة ونحن لا نطيق ذلك بل ولانستطيع فعل مايفعلون إلا ما رحم الله سبحانه وبعد التفكير والبحث وبعد القراءة في الكتب التي تعنى بأعمال القلوب وجدت السر في عبادة السلف وهو: أن السلف كانوا يهتمون اهتماماً شديداً بالعبادات القلبية أكثر بكثير من العبادات الظاهرية.
وعبادة القلب هي :عبادة قلبية بين المرء وبين ربه لا يعلم عنها ملك فيكتبها ولاشيطان فيفسدها،،
وهذا الذي جعل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يتميزون بعبادتهم وطاعتهم لربهم عن زمننا هذا وذلك لعنايتهم الخاصة بالعبادات القلبية التي هي روح العبادة بل هي والله حياة الروح.
وعبادة القلب هي التي يكسب بها الإنسان الأجور العظام ولو كان العمل يسيرا ،بل وقد يكسب الإنسان أجراً عظيماً دون أن يفعل أي عبادة بجوارحه ولكنه تعبد الله بها بقلبه ولهذا قال الحبيب-عليه السلام- "من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " ،فهو لم يغزو ولكنه بلغ منازل الشهداء بصدق عبادته القلبية ،وكذا المرء قد يصلي ويكسب بصلاته أجوراً عظيمة أكثر من الذي يصلي بجانبه بسبب عبادته القلبية ولهذا قال الحبيب-عليه السلام- "يصلي الرجلان وبينهما من الأجر كما بين السماء والأرض.." أو كما قال عليه السلام ،،لماذا بينهما من الأجر كما بين السماء والأرض مع أن حركاتهما الظاهرية واحدة ،ركوع الرجل الأول كالآخر وسجوده كسجوده وكذا الرفع من الركوع وهكذا ،،لكن الفارق بينهما من الأجر كبير لأن أحدهما تعبد الله بقلبه قبل جوارحه والآخر تعبد الله بجوارحه فقط بينما قلبه غافل لاه،،
وكذا الصحابي الذي قال عنه النبي-عليه السلام- وهو في مجلس أصحابه : "يدخل عليكم رجل من أهل الجنة ،وفي اليوم الثاني والثالث قال مثلها فيدخل نفس الرجل في الأيام الثلاثة ويتبين بعد ذلك لعبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- في القصة المشهورة أن الرجل لايجد في نفسه لأحد من المسلمين غشاً ولايحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه ،مع أن ابن عمر-رضي الله عنهما- كاد أن يحقر عمله كما في الحديث لأنه لم يكن بكثير صلاة ولاصيام ولكنه قال بعدها: هذه التي بلغت بك وهي التي لانطيق" ،إنها العبادات القلبية يا أحبة ،،
وهذا مصداق قول الرسول-صلى الله عليه وسلم-
"إن الله لاينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم
" .
وانظروا إلى الصحابي الجليل أبي بكر-رضي الله عنه- فقد كان أبوهريرة-رضي الله عنه- أكثر رواية للحديث من أبي بكر-رضي الله عنه- ،وكان ابن عمر-رضي الله عنهما- أكثر قياماً لليل من أبي بكر-رضي الله عنه- ،وكان خالد بن الوليد-رضي الله عنه-أشجع في الحروب من أبي بكر-رضي الله عنه- ، ومع ذلك تجد أبابكر أول الخلفاء الراشدين وأحب الناس إلى قلب النبي-صلى الله وعليه وسلم- ،وهو المقدم على كل الصحابة ،ما السبب في ذلك ،،؟ هو شيء وقر في قلب أبي بكر-رضي الله عنه- جعله يتجاوز كل هؤلاء الصحابة .
يتبين مما مضى ياأحبة أن السلف فازوا فوزاً عظيماً لاهتمامهم بالعبادات القلبية أكثر من عبادات الجوارح حيث أن اختلال العبادات القلبية قد تهدم عبادات الجوارح وقد تنقص من أجرها، فاختلال الإخلاص مثلاً قد يؤدي إلى الشرك والنفاق، وبالتالي فهناك عبادات قلبية يجب أن تتوفر في قلب المؤمن وهي التي ستكون بإذن الله سبباً وعوناً في أنسه وتلذذه بعبادة ربه وطاعته سواء في الصلاة أو في غيرها كما كان يفعل سلفنا الصالح وهي:
1- الإخلاص وهو :استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن . أو هو :أن لاتطلب لعملك شاهداً غير الله ولامجازياً سواه .
2- التوكل وهو :صدق اعتماد القلب على الله سبحانه في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة .
3- التوبة وهي : الرجوع بصدق عن الذنب .أو هو :الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً .
4- الخوف وهي كما قال الحبيب-عليه السلام- لعائشة-رضي الله عنها- :
هوالرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف الله عز وجل
.
5- الرجاء وهو :الإستبشار بفضل الله سبحانه . أو هو :الثقة بجود الله سبحانه .
وهذه العبادات القلبية مُجمّلة لعبادات الجوارح ؛لأن القلب هو المتعبد والطائع لله سبحانه وإنما المنتشر على الجوارح من العبادات أنواره ، وكذا القلب هو العاصي لله وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش هو آثاره ، فالعبادات القلبية يا أحبة هي أعظم مراتب الدين ولذا عرف الحبيب –عليه السلام- الإحسان بقوله "
أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
".
ولذا فالعبادات القلبية محركة ودافعة للجوارح لأن تُقبِل على العبادة ،ولهذا قال عتبة الغلام-رحمه الله- "من عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه" ، والعبادات القلبية قد تعظم من عمل المرء وإن كان حقيرا وقد تحقر عمله وإن كان عظيما ولذا قال عبدالله بن المبارك –رحمه الله- "رب عمل عظيم تحقره النية ،ورب عمل صغير تعظمه النية " .
والعبادات القلبية كما أنها قد تعظم من عمل المرء وتنجيه ولكنها قد تهلكه ، ولهذا أول من تسعر بهم النار كما قال المصطفى –عليه السلام- ثلاثة :رجل جمع القرآن، ورجل كثير المال ،ورجل قتل في سبيل الله،،لاحظوا ياأحبة أعظم الأعمال الصالحة تحصلها هؤلاء بينما يتمنى تحصيلها كثير من الناس ولكنهم مع ذلك هم والعياذ بالله في نار جهنم لأنهم لم يتعبدوا الله بها بقلوبهم بل أرادوا بها حظاً من الدنيا .
وبالتالي يا أحبة فإن أعظم ما يعين العبد على أن يتعبد الله بقلبه قبل جوارحه عدة أمور هي :
1- الدعاء ،فالله هو المعين على تلك الأمور .
2- العلم ،وذلك بأن يتعلم ويعرف العبد أهمية العبادات القلبية"الإخلاص-التوكل-التوبة-الخوف-الرجاء" وغيرها كالرضا والخشوع وماسواها من العبادات القلبية التي تجعل المرء يعظم ربه ويوقره مما يجعل الإنسان يستمتع بعبادة الله سبحانه ويأنس به.
3- المجاهدة ،لأن العمل بهذه الأعمال القلبية تحتاج إلى مجاهدة ومصابرة وقد قال الله سبحانه "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا..."
4- صحبة الصالحين ، فالمؤمن ضعيف بنفسه قوي بإخوانه .
5- قراءة سير السلف والصالحين فهي جند من جنود الله على قلب المؤمن .
ختاماً أيها الفضلاء :
أخوكم العبد الضعيف لم يذكر إلا شيئاً يسيراً عن عبادة القلب وإلا فالحديث عن عبادة القلب حديث واسع جداً ليس هذا مجالها وكيف لا ونحن لم نخلق إلا لذلك وقد قال سبحانه "وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " ، والإنسان يحتاج إلى أن يتعبد الله ويأنس به سبحانه ويتلذذ بعبادته وطاعته لأنه لم يخلق إلا لهذا ، لذا فإني أنصح من يقرأ أحرفي هذه بأن يقرأ كتاب الله تدبراً وفي سنة المصطفى-عليه السلام- تبصراً ففي كتاب الله وسنة الحبيب-عليه السلام- أنسه وراحته وطمأنينته ، ثم أنصحه بقراءة الكتب التي تتحدث عن عبادات وأعمال القلوب ففيها من الأثر العظيم على عبادة الإنسان القلبية ما لله به عليم وأجزم يقيناً أن من يقرأ الكتب التي تتحدث عن عبادات وأعمال القلوب بعد كتاب الله ستتغير عبادته إلى أفضل مما كان ،وسيستشعر الأنس بالله ولذة المناجاة وطاعة رب العالمين غير ما كان يتعبد الله من قبل .