في معرفة الله
كثيرًا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَهدينا إلى معرفة اللهعَبر ما نَعرِفه مِن أنفسنا ومما حولنا، مع أفضلية الأعظمية والأكبرية والقَداسة للباري - عزَّ وجل - وله المثل الأعلى؛ ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]
فعندما يقول لنا بأن ما نُشاهِده وما نُحسُّه مِن جميل الرحمة في عالمنا هو رحمةٌ مِن مائة رحمة، بثَّها الله في الأرض لتتراحَم بها مخلوقاته، وادَّخر التسع والتسعين رحمةً الباقيةَ ليومِ القيامة، فهو يُجلِّي لنا - عليه الصلاة والسلام - عظمةَ رحمة الخالق - سبحانه وتعالى - عبر ما هو بادٍ لنا مِن رحمة مخلوقاته لبعضها البعض، مع أفضليةٍ جبَّارة لما عند الخالق على ما هو عند المخلوقات،
فكأنه يُعبِّر تعبيرًا رياضيًّا عن رحمة الله على أنها ما نَعرِفه مِن رحمة الأرض "ضَرْب" تسعة وتسعين، مثلما يُعبِّر لنا عن عظيم فرحة الله بتوبة عبده المخطئ، ورجوعه إليه عندما يُصوِّرها لنا عبر فرحة نَعرِفها ونُعايشُها، فيقول عن أعرابي تَضيع راحلته وزاده في الصحراء ثم يَجدُها بأن الله "أشدُّ" فرحًا بتوبة عبده مِن ذلك براحلته وزاده.
عندما تُسدي معروفًا أو تُهدي هديةً إلى أخ لك أو تعطيه عطيَّة، ثم يَشكُرك ويَصِف لك صنيعَك، ويُعدِّد لك مَحاسنَ فيه قد لا تكون تعمَّدتْها أصلاً، وتجدُ منه عرفانًا جميلاً لم تكُن تتوقَّعه ولا تَنتظِره منه، فهل تعلم بأن عرفان المخلوق الذي أدخل السرور على قلبك قد يكون صورةً مصغَّرة (مصغَّرة جدًّا) عن عرفان الخالق - عزَّ وجلَّ؟
وهل تعلم بأنك قد تُلاقي يوم حسابِك ربًّا راضيًا، يُعدِّد لك محاسن صنيعك أو عملك الذي قدَّمته لنفسك، ويُبشِّرك بأنه قد رضيَ عن عملك وقَبِل صنيعَك، فتفرح مثل فرحتك واستِبشارك بعرفان أخيك، بل تفرح وتَستبشِر كما لم تفرَح منذ ولدتْك أمُّك،
فالعظمة لله دائمًا - سبحانه، عزَّ وجل - في سعينا لمعرفته عن طريق أمور نَعرِفُها، فعرفان الله نَعرِفه من معرفتنا لعرفان عباد الله، ورحمته نعرفها مِن رحمة مخلوقاته لبعضها البعض، وفرحته بعودة عبده نَعرِفها مِن فرحة الإنسان بعودة ما ضلَّ عنه ومِن فرحة الأم بولدها،
وكذلك غَيْرته على العِرض وعلى محارمه نَعرِفُها؛ لنَحذرَها ونتَّقيها مِن معرفتنا لغيرة عباده على محارمهم مع الإعظام لغيرته - سبحانه - " فليس أحدٌ بأَغير مِن الله " ، فلو أنَّ بنتًا تعرَّض لها فاسقٌ بالمُعاكَسة ورآه أبوها أو أخوها، فماذا يُتوقَّع مِن الأب أو الأخ غير النَّكال الشديد بالمُعتدي على حُرمة العِرض؟ فهل يتوقَّع مِن غيرة الله على أمتِه وعبده ومحارمه غيرَ ما هو أشدُّ مِن نَكال الأب عن ابنته والأخ عن أخته؟
وهل يَجدر بمَن عرَف هذا مِن ربِّه أن يفعل شيئًا غير طاعته واتقائه - سبحانه؟! فمعرفتنا لله كيفما كانت يجب أن تَحضَّنا على طاعته واجتناب نواهيه وعدم الاعتداء على حدوده، فمعرفة الله مرتبطة بعبادته، وكلَّما ازداد العبد معرفة بربّه، ازدادت عبادته له واكتملت أكثر.
واللهَ نسأل أن يُبلِّغنا معرفته - سبحانه - ويُعيننا بقدرته وجلاله على حُسن عبادته.