مفتاح اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم
تبصرة: إن الاتباع العام للرسول صلى الله عليه في كل شيء، إنما مفتاحه التحلم بحلمه.
وهذا – من حيث المعنى – في كتاب الله، ألم تقل عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)؟، فالعود إذن للقرآن، نبحث فيه عن معنى الاتباع ومفهوم التأسي، الآية واضحة ظاهرة لكل ذي قلب شهيد،
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}
[الأحزاب: 21]
وإنها لآية عظيمة، وحكمة بالغة، وصراط مستقيم. تدبر هذه العبارة الربانية:
{أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
فأما الأسوة: فهي التَّخَلُّقٌ. فالتأسي: اتباع السيرة، والتخلق بما كان عليه المتأسَّي به من خلق عام، والخلق هنا هو كل الأوصاف التي كان يوصف بها في سلوكه وعمله، عدا الأوصاف الجبلية، التي لا يمكن اكتسابها بالتأسي ولا بغيره، ووصف الأسوة بــ (الحسنة) دليل على علو شأن الخلق النبوي، وكمال سيرته، وسلوكه العام والخاص، فهو لذلك كان أرقى نموذج بشري للتأسي والتخلق، أليس هو (رسول الله) المصنوع على عين الله، والمتأدب بأدب الله؟ بلى والله، فإذن من هاهنا يبدأ التأسي والاتباع، ومن أخطأه هذا المدخل للسنة النبوية فقد أخطأها كلها؛ إذ أتي البيوت من غير أبوابها. وتلك شهادة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
[القلم: 4]،
تلك هي الأسوة الحسنة؛ ولذلك قال بعد:
{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}
[الأحزاب:21]
إذ الخلق الحسن هو باب العمل الصالح، وسبب قبوله، فليس عبثاً أن يصرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله العجيب:
(ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن)
، وقوله في نحو هذا أيضاً:
(إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة).
ولذلك فإنه: (لا يكون المؤمن لعاناً) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لعائشة أم المؤمنين؛ إذ استغربَتْ من أنه دارى أحد الناس ممن تكره:
( يا عائشة! متى عهدتني فحاشًا؟ إن شر الناس عند منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)
. والقصة كما في صحيح البخاري أنه
(استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة! أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟) فقال لها صلى الله عليه وسلم ما قال.
قلت : هذا حديث تشد إليه رحال القلوب،
{لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
[ق: 37]
، وإنه والله سر حُسْنِ الأسوة، وجمالها في رسول الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
"إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة"
. ذلك خلق رسول الله، ذلك خلق القرآن، وهو قول الله تعالى:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
[آل عمران: 159]
وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[التوبة: 128]
. ألا ما أحوج الناس اليوم عامة، والدعاة منهم خاصة إلى استيعاب هذا البلاغ القرآني العظيم، ألا وإن من أجهل الجهالات وأقبحها ما بدر من بعضهم – في زماننا هذا – من دفاع وتأصيل للخشونة في الدعوة، والتعنت في الدين! فتعلم من السنة أخي الداعية أخلاق النبوة؛ تكن بإذن الله من الراشدين!
ذلك خلقه صلى الله عليه وسلم الجامع المانع؛ قاطع لكل عبث؛ ومن هنا جعلنا عنوان هذا البلاغ الضابط لكل ما قبله: (في اتباع السنة تزكية وتعلُّماً وتحلُّماً) ؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث معلماً ومزكياً، وكان كل ذلك منه على منهج الحلم والرأفة والرحمة والأناة، فصلى الله عليه وسلم من نبي حليم ورسول كريم! تلك أصول البلاغ القرآني كتاباً وسنة، فما بقي لي ولك إلا تحقيق المناط، والدخول في الرباط، وذلك هو فقه الدين منزلاً على وفق الزمان والمكان، وهو بيان كيف العمل؟ وكيف الانطلاق؟ وكيفالسير إلى الله؟ سلوكاً ودعوة، فرادى وجماعات، تلك أسئلة جمعنا جوابها في مفاتيح ثلاثة، هي خلاصة البلاغ السابع والأخير من هذه الرسالة.