مفهوم الإخلاص
مفهوم الإخلاص
الإخلاص في اللغة:خَلَص يخلص خلوصًا: صفا وزال عنه شوبه، ويقال: خلص من ورطته: سلم منها، ونجا، ويقال: خلَّصه تخليصًا: أي نجّاه. والإخلاص في الطاعة: ترك الرياء([1]).
وحقيقة الإخلاص:هو أن يريد العبد بعمله التقرب إلى الله تعالى وحده.
وقد ذكر أهل العلم تعريفات بعضها قريب من بعض:
فقيل: الإخلاص: إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة.
وقيل: الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعْمَرَ من ظاهره.
وقيل: تصفية العمل من كل ما يشوبه([2]).
وعلى ما تقدّم: يتّضح أن الإخلاص: صرف العمل والتقرّب به إلى الله وحده، لا رياءً ولا سمعةً، ولا طلبًا للعَرَض الزائل، ولا تصنّعًا، وإنما يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه.
ولهذا قال القاضي عياض: ((تَرْك العمل من أجل الناس رياءٌ، والعملُ من أجل الناس شركٌ، والإخلاصُ أن يعافيَكَ الله منهما)) ([3]).
والإخلاص:في حياة المسلم أن يَقصد بعمله، وقوله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه الله تعالى وحده لا شريك له ولا رب سواه.
المطلب الثاني: أهمية الإخلاص
لقد خلق الله الخلق: الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، وأمر جميع المكلفين بالإخلاص:]وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ [([4])، وقال تعالى: ]إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين *، أَلا لله الدِّينُ الْـخَالِصُ [([5]) ، ]قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ [([6])، ]الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [([7]).
قال الفضيل بن عياض: هو أخلَصُهُ وأصوَبُهُ. قالوا: يا أبا علي:
ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: ((إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة([8]). ثم قرأ قوله تعالى: ]فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [([9])، وقال تعالى: ]وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ )([10]). فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته([11]).
وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : ((ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تُحيط من ورائهم))([12]).
والإخلاص هو روح عمل المسلم، وأهم صفاته، فبدونه يكون جهده وعمله هباءً منثورًا.
والإخلاص من أهم أعمال القلوب باتفاق أئمة الإسلام، ولاشك أن أعمال القلوب هي الأصل: لمحبة الله ورسوله، والتوكل عليه، والإخلاص له، والخوف منه، والرجاء له، وأعمال الجوارح تَبَعٌ؛ فإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح مات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح.
فيجب على المسلم أن يكون مخلصًا لله Uلا يريد رياءً ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا مدحهم وحمدهم، إنما يعمل الصالحات، ويدعو إلى الله يريد وجهه - تعالى - كما قال سبحانه: ]قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى
الله [([13])، وقال سبحانه: ]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله [([14]).
والإخلاص أعظم الصفات التي تجب على جميع المسلمين، فيريدون بدعوتهم وعملهم وجه الله والدار الآخرة، ويريدون إصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور([15]).
المطلب الثالث: مكانة النية الصالحة وثمراتها
النية:أساس العمل وقاعدته، ورأس الأمر وعموده، وأصله الذي عليه بُنِيَ؛ لأنها روح العمل، وقائده، وسائقه، والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يحصل التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة([16])؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى...)) ([17]).
وقال الله تعالى: ]لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [([18]).
وهذا يدل على أهمية ومكانة النية، وأن الدعاة إلى الله وغيرهم من المسلمين بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أُعطي العبد الأجر الكبير، والثواب العظيم، ولو لم يعمل إنما نوى نية صادقة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا))([19])، وقال صلى الله عليه وسلم : ((ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلا كُتبَ له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة))([20]).
وقال صلى الله عليه وسلم : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر، لا ينقص ذلك من أجره شيئًا))([21]).
وقال صلى الله عليه وسلم : ((من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))([22]).
وهذا يدل على فضل الله I، وإحسانه إلى عباده؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: ((لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سِرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه))، قالوا: يا رسول الله كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: ((حَبَسهُمُ العذر))([23]).
وبالنية الصالحة يضاعف الله الأعمال اليسيرة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل جاء إليه مقنع بالحديد، فقال يا رسول الله: أقاتل أو أسلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ((أسلم ثم قاتل))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِلَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عمل قليلاً وأُجر كثيرًا)) ([24]).
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في الإسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام وهو في مسيره، فدخل خُفّ بعيره في جحر يربوع فوقصه بعيره فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عمل قليلاً وأُجر كثيرًا ))قالها حماد ثلاثًا([25]).
وبالنية الصالحة يُبارك الله في الأعمال المباحة، فيثاب عليها العبد؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له
صدقة))([26])، وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ((إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعلُ في في امرأتك))([27]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقّي فيه ربه، ويَصِلُ فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهو بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء))([28]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((إن الله Uكتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك،فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة...))([29]).
المطلب الرابع: ثمار الإخلاص وفوائده
الإخلاص له ثمرات حميدة وفوائد جليلة عظيمة، منها ما يأتي:
أولاً:خير الدنيا والآخرة من فضائل الإخلاص وثمراته.
ثانياً:الإخلاص هو السبب الأعظم في قبول الأعمال مع متابعة النبي صلى الله عليه وسلم .
ثالثاً:الإخلاص يُثمر محبة الله للعبد، ثم محبة الملائكة، ووضع القبول في الأرض.
رابعاً:الإخلاص أساس العمل، وروحه.
خامساً:يُثمر الأجر الكبير والثواب العظيم بالعمل اليسير،والدعاء القليل.
سادساً:يُكتب لصاحب الإخلاص كل عمل يقصد به وجه الله، ولو كان مباحًا.
سابعاً:يُكتب لصاحب الإخلاص ما نوى من العمل ولو لم يعمله.
ثامناً:إذا نام أو نسي كُتب له عمله الذي كان يعمله.
تاسعاً:إذا مرض العبد أو سافر كُتب له بإخلاصه ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا.
عاشراً:ينصر الله الأمة بالإخلاص.
الحادي عشر:الإخلاص يُثمر النجاة من عذاب الآخرة.
الثاني عشر:تفريج كروب الدنيا والآخرة من ثمرات الإخلاص.
الثالث عشر:رفع المنزلة في الآخرة يحصل بالإخلاص.
الرابع عشر:الإنقاذ من الضلال.
الخامس عشر:الإخلاص سبب لزيادة الهدى.
السادس عشر:الصِّيت الطيب عند الناس من ثمار الإخلاص.
السابع عشر:طمأنينة القلب والشعور بالسعادة.
الثامن عشر:تزيين الإيمان في النفس.
التاسع عشر:التوفيق لمصاحبة أهل الإخلاص.
العشرون:حسن الخاتمة.
الحادي والعشرون:استجابة الدعاء.
الثاني والعشرون:النعيم في القبر والتبشير بالسرور.
الثالث والعشرون:دخول الجنة والنجاة من النار.
وهذه الثمرات والفوائد أدلتها كثيرة من الكتاب والسنة([30]).
فأسأل الله لي ولإخواني المسلمين الإخلاص في القول والعمل.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) المعجم الوسيط، 1/249، ومختار الصحاح، ص77.
([2]) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/91.
([3]) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/91.
([4]) سورة البينة، الآية: 5.
([5]) سورة الزمر، الآيتان: 2- 3.
([6]) سورة الأنعام، الآيتان: 162- 163.
([7]) سورة الملك، الآية: 2.
([8]) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/89.
([9]) سورة الكهف، الآية: 110.
([10]) سورة النساء، الآية: 125.
([11]) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/90.
([12]) أخرجه الترمذي، في كتاب العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع، 5/34، برقم 2658 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وأخرجه أحمد، 5/183 من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، 1/78.
([13]) سورة يوسف، الآية: 108.
([14]) سورة فصلت، الآية: 33.
([15]) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/349 و4/229.
([16]) انظر: النية وأثرها في الأحكام الشرعية للدكتور صالح بن غانم السدلان، 1/151.
([17]) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه : البخاري، كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، 1/9، برقم 1. ومسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم : ((إنما الأعمال بالنية ))، 3/1515، برقم 1907.
([18]) سورة النساء، الآية: 114.
([19]) البخاري،كتاب الجهاد والسير،بابٌ:يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة،4/200،برقم 2996.
([20]) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من نوى القيام فنام، 2/24، برقم 1314. والنسائي، كتاب قيام الليل، وتطوع النهار، باب من كان له صلاة بليل فغلبه عليها نوم، 3/275، برقم 1784. وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/204، وصحيح الجامع، 5/160 برقم 5567.
([21])أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فسبق بها، 1/154، برقم 564. والنسائي، كتاب الإمامة، باب حد إدراك الجماعة، 2/111، برقم 855. وقال ابن حجر في فتح الباري: ((إسناده قوي ))، 6/137.
([22])مسلم، كتاب الإمارة،باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، 3/1517، برقم 1909.
([23])البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو، 3/280، برقم 2839، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب الرخصة في القعود من العذر، 3/12، برقم 2058، واللفظ له.
([24])متفق عليه من حديث البراء رضي الله عنه : البخاري، كتاب الجهاد والسير، بابٌ: عمل صالح قبل الجهاد، 3/271، برقم 2808، واللفظ له. ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/1509، برقم 1900.
([25]) مسند الإمام أحمد، 4/ 357.
([26])متفق عليه من حديث أبي مسعود رضي الله عنه : البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، 1/24، برقم 55. ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، والزوج، والأولاد، 2/625، برقم 1002.
([27])متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية، 1/24، برقم 56. ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، 3/1250، برقم 1628.
([28])الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، 4/562، برقم 2325، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب النية، برقم 4228، وأحمد، 4/130، وصححه الألباني، في صحيح الترمذي، 2/270.
([29])متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الرقاق، باب من همّ بحسنة أو سيئة، 7/239، برقم 6491، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت له وإذا همّ بسيئة لم تكتب، 1/117، برقم 131.
([30]) يدل على ذلك ما تقدم في المطلبين السابقين، وانظر: كتاب الإخلاص لحسين العوايشة، ص64.