منهج الرسل عليهم السلام في الدعوة إلى الله عز وجل
ومن هنا أيها الإخوة في الله! فإنني سأتحدث معكم عن جوانب من هذا الموضوع، وأقول لكم: إن ما سأتحدث عنه ما هو إلا الحلقة الأولى في هذا الموضوع الكبير؛ لأنني وجدت أنني لن أستطيع أن أوفيه حقه في جلسة واحدة؛ فسأبدأ معكم في الحلقة الأولى، ولعل الله أن يهيئ مناسبة أخرى لنكمل هذا الموضوع المهم، فأقول: أولاً: ما هو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؟ إن الله تبارك وتعالى رحمة بالبشر أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام كانت منطلقاتهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وفي تربية أممهم قائمة على توازن النظرية والتطبيق، حيث يأمرونهم بالحقيقة العلمية المثبتة لوجود الله ولأحقيته بالعبادة وحده لا شريك له، ثم ينقلونهم إلى واقع عملي؛ لتخلص تلك العبادة لله سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
ولهذا فإن دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام تضمنت أصولاً كبرى على رأسها الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادة الله وحده لا شريك له هي أمر عملي، كما سيأتينا إن شاء الله تعالى؛ لأن الإيمان بالله سبحانه وتعالى له جانبان: الجانب الأول: جانب نظري، والجانب النظري هو ما يقتضي الإيمان بالله وبوجوده وأسمائه وصفاته الذي يُسمى عند كثير من العلماء بتوحيد المعرفة والإثبات الذي هو التوحيد القولي، بمعنى: أن يؤمن الإنسان ويصدق بأن الله موجود، وأنه واحد، وأنه متصف بصفات الكمال، لكن القسم الثاني من التوحيد هو توحيد العبادة، توحيد الألوهية، وهذا الجانب الثاني، وهو التطبيق العملي للجانب الأول، ولهذا نرى أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، فأمرهم بالعبادة، والعبادة أمر عملي، لكن عبادة لمن؟ رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً.
[البقرة:21-22] إلى آخر الآية.
إذاً: الرسل عليهم الصلاة والسلام دعوا أول ما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتلك هي القضية الكبرى التي دعا إليها جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكل رسول كان يدعو قومه يقول لهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، هذه العبادة هي التطبيق العملي الواقعي الأولي لكل إنسان ينتقل من الكفر إلى الإيمان، ولهذا صار أساساً ومنطلقاً لدعوة كل رسول من الرسل عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
الأساس الثاني المرتبط بالجانب العملي في منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام هو: الامتثال لشرع الله سبحانه وتعالى، والامتثال لشرع الله تبارك وتعالى إنما هو التطبيق العملي في حياة الإنسان، وانتبهوا إلى قضية ارتباط التطبيق العملي في جانب العقيدة، فلا يأتي الإنسان ويقول: أنا أؤمن وأصدق، وفكري نظيف .
إلى آخره، نقول له: لا يكفي إيمانك وتصديقك القلبي وفكرك النظيف وفهمك، ما لم يتحول إلى واقع عملي، وهذه من القضايا الكبار في باب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
فالأمر الثاني هو الامتثال لشرع الله سبحانه وتعالى، والامتثال لشرع الله في منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بُني على أمور: الأمر الأول: طاعة كل رسول أرسل إلى قومه، ولهذا كان كل نبي يدعو قومه قائلاً لهم: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3]، فقوله: (اعبدوا الله واتقوه) هذه عقيدة عملية، ثم يأتي ويقول: (وأطيعون)، أي: في كل ما أمر به هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا -أيها الإخوة- كانت طاعة الرسول قرينة لطاعة الله تبارك وتعالى.
الأمر الثاني مما يأمر به الرسول مما يتعلق بالامتثال لشرعه هو: ترك المنكرات الظاهرة والتخلي عنها، فالرسول إذا أرسله الله إلى قوم يأمرهم بعبادة الله، ويأمرهم بطاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، ثم يركز على أمر اشتهر وانتشر عند هؤلاء القوم، فيطلب منهم التخلي عنه فوراً، كما أمر شعيب عليه الصلاة والسلام قومه بألا يبخسوا المكاييل والموازين، كما حكى الله عنه أنه قال: وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ [هود:84]، لأن بخس المكاييل والموازين ونقصها عند قوم شعيب كان ظاهرة عامة، يمكن أن نسميه في مصطلحنا الحديث: قانوناً معترفاً به عندهم، أو قانوناً ملزماً يعمل به الجميع، ولا ينكره أحد، فالرسول شعيب عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى أن يتخلوا عن هذا المنكر الظاهر، وقال لهم: يجب أن يتحول هذا إلى أن يكون بالنسبة لكم معصية، ولا يقع فيه الإنسان إلا كان مرتكباً لمعصية من المعاصي.
وكذلك أيضاً لما أرسل الله تبارك وتعالى نبي الله لوطاً عليه الصلاة والسلام إلى قومه كانت تلك الفاحشة القذرة المنتنة منتشرة في أولئك القوم، فدعاهم إلى ترك هذه الفاحشة، وأمرهم بأن يعبدوا الله، وأن يطيعوه، وأمرهم بأن يتركوا هذه الفاحشة، فصارت أصلاً من أصول العقيدة؛ لأنها بالنسبة لقوم لوط تحولت إلى منهج ونظام معترف به لدى الجميع، فلوط عليه الصلاة والسلام يقول: استجيبوا واتركوها؛ بحيث تصبح بالنسبة لكم جريمة، وإذا وقعت من واحد منكم يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر، لكن أن تتحول عندكم إلى نظام وقانون عام فلا، فهذه الجريمة البشعة المنتشرة لا يجوز أن تبقى عندكم هكذا.
ومن هنا كان منهاج الرسل عليهم الصلاة والسلام مبنياً على هذا.
ثم -أيضاً- قام منهاج الرسل عليهم الصلاة والسلام بالدعوة إلى الكفر بالطاغوت، وكل نبي - كما في الآية السابقة- دعا قومه إلى عبادة الله تبارك وتعالى، وأن يجتنبوا الطاغوت.
وهذا الطاغوت ليس نوعاً واحداً؛ وإنما هو أنواع متعددة، ولقد أجملها بعض الأئمة رحمهم الله تعالى بأنه: كل ما عبد من دون الله من معبود أو متبوع أو مطاع.
من معبود: كالأصنام والسحرة والكهنة والجن وغيرهم، أو متبوع: أن يتبعها على غير منهج الله، أو مطاع: في معصية الله تبارك وتعالى تحليلاً وتحريماً وهم يعلمون، فكل من كان على مثل ذلك فهو طاغوت، فكان كل نبي يدعو قومه إلى الكفر بهذا الطاغوت، والكفر بالطاغوت يتحول إلى واقع عملي.
هذه إلمامة سريعة مختصرة بمنهاج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله، ومنها يتبين أن كل نبي لما أرسله الله إلى قومه لم يدعهم إلى نظريات فقط، وإنما دعاهم إلى إيمان ومعرفة يتبعها تطبيق عملي، ونقلة عملية ينتقل بها الفرد، وتنتقل بها الأمة بكاملها من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله وحده لا شريك له، من عبادة الهوى والنفس والشيطان إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ ومن طاعة الكهان وطاعة الفساق وطاعة المشرعين بغير ما أنزل الله، إلى طاعة هذا النبي الكريم الذي أرسله الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء القوم.