من روائع ابن القيم في أنواع القلوب
قلب خال من الإيمان وجميع الخير فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتا ووطنا وتحكم فيه بما يريد وتمكن منه غاية التمكن.
القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هنالك إقبال وإدبار ومجالات ومطامع فالحرب دول وسجال، وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئا إلا خطفه.
وقد مثل ذلك بمثال حسن، وهو ثلاثة بيوت: بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره، وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره وليس جواهر الملك وذخائره، وبيت خال صفر لا شئ فيه، فجاء اللص يسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟ فإن قلت من البيت الخالي كان محالا؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شئ يسرق؛ ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟ وإن قلت: يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع؛ فإن عليه من الحرس واليزك وما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه؟ وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث فهو الذي يشن عليه الغارات.
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل ولينزله على القلوب فإنها على منواله." (1)
♦ أ. أحمد حجازي.
[1] - الوابل الصيب /37