من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه


فريق عمل الموقع

 

 

 

لما كمل للرسول صلى الله عليه وسلم مقام الافتقار إلى الله سبحانه أحوج الخلائق كلهم إليه في الدنيا والآخرة. أما حاجتهم إليه في الدنيا فأشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس الذي به حياة أبدانهم. وأما حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله حتى يريحهم من ضيق مقامهم. فكلهم يتأخر عن الشفاعة فيشفع لهم, وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة.

 

 

   

من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته. وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره. وكلما زيد في عمره نقص من حرصه. وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله. وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.

 

 

وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه, وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه, وكلما زيد في عمره زيد في حرصه وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه. وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام:وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء, كالملك والسلطان والمال.قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس:{ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } النمل40. فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور. كما أن المحن بلوى منه سبحانه, فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب, قال تعال:{ فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ* كَلاَّ..} الفجر 15-17, أي ليس كل ما وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك إكراما مني له, ولا كل من ضيّقت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك إهانة مني له. ( أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا فان الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ويضيق على من يحب ومن لا يحب, وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين إذا كان غنيّا بأن يشكر الله على ذلك وان كان فقيرا بأن يصبر

 

 

من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به. فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه. فالأعمال والدرجات بنيان وأساسها الإيمان, ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه. وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه, وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت, وإذا تهدم شيء من  الأساس سقط البنيان أو كاد. فالعارف همّته تصحيح الأساس وإحكامه, والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط. قال تعال:{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}

 

 

فالأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان, فإذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت عنه كثيرا من الآفات, وإذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء, فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان, فإذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس.وهذا الأساس أمران: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته. والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه, فهذا أوثق أساس أسس العبد عليه بنيانه, وبحسبه يعتلي البناء ما شاء. فاحكم الأساس, واحفظ القوة, ودم على الحمية, واستفرغ إذا زاد بك الخلط, والقصد القصد وقد بلغت المراد, وإلا فما دامت القوة ضعيفة والمادة الفاسدة موجودة والاستفراغ معدوما:

 

 فاقر السلام على الحياة فإنها    قد آذنتك بسرعة التوديع

 

فإذا كمل البناء فبيضه بحسن الخلق والإحسان إلى الناس, ثم حطه بسور من الحذر, لا يقتحمه عدو, ولا تبدو منه العورة, ثم ارخ الستور على أبوابه, ثم أقفل الباب الأعظم بالسكوت عما تخشى عاقبته, ثم ركب له مفتاحا من ذكر الله به تفتحه وتغلقه, فإن فتحت فتحت بالمفتاح وإن أغلقت الباب أغلقته به, فتكون حينئذ قد بنيت حصنا تحصنت فيه من أعدائك إذا طاف به العدو لم يجد منه مدخلا فييأس منك. ثم تعاهد بناء الحصن كل وقت, فإن العدو إذا لم يطمع في الدخول من الباب نقّب عليك النقوب من بعيد بمعاول الذنوب, فإن أهملت أمره وصل إليك النقب, فإذا العدو معك في داخل الحصن فيصعب عليك إخراجه, وتكون معه على  ثلاث خلال إما أن يغلبك على الحصن, ويستولي عليه, وإما أن يساكنك فيه, وإما أن يشغلك بمقابلته عن تمام مصلحتك, وتعود إلى سد النقب ولم شعث الحصن.وإذا دخل نقبه إليك نالك منه ثلاث آفات: إفساد الحصن, والإغارة على حواصله وذخائره, ودلالة السراق من بني جنسه على عورته. فلا يزال يبلى منه بغارة بعد غارة حتى يضعفوا قواه ويوهنوا عزمه فيتخلى عن الحصن ويخلي بينهم وبينه.وهذه حال أكثر النفوس مع هذا العدو, ولهذا تراهم يسخطون ربهم برضا أنفسهم, بل برضا مخلوق مثلهم لا يملك لهم ضرا ولا نفعا, ويضيعون كسب الدين بكسب الأموال, ويهلكون أنفسهم بما لا يبقى لهم, ويحرصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم, ويزهدون في الآخرة وقد هجمت عليهم, ويخالفون ربهم باتّباع أهوائهم, ويتكلون على الحياة ولا يذكرون الموت, ويذكرون شهواتهم وحظوظهم وينسون ما عهد الله إليهم, ويهتمون بما ضمنه الله لهم ولا يهتمون بما أمرهم به, ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها ولا يحزنون على فوات الجنة وما فيها ولا يفرحون بالإيمان فرحهم بالدرهم والدينار, ويفسدون حقهم بباطلهم وهداهم بضلالهم ومعروفهم بمنكرهم, ويلبسون إيمانهم بظنونهم, ويخلطون حلالهم بحرامهم, ويترددون في حيرة آرائهم وأفكارهم, ويتركون هدى الله الذي أهداه إليهم. ومن العجب أن هذا العدو يستعمل صاحب الحصن في هدم حصنه بيديه.

 

 

 

أركان الكفر أربعة: الكبر والحسد والغضب والشهوة.فالكبر يمنعه الانقياد, والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها, والغضب يمنعه العدل, والشهوة تمنعه التفرّغ للعبادة. فإذا انهدم ركن الكبر سهل عليه الانقياد, وإذا انهدم ركن الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله, وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع, وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة.وزوال الجبال عن أماكنها  أيسر من زوال هذه الأربعة عمن بلي بها, ولا سيما إذا صارت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة, فإنه لا يستقيم له معها عمل البتة ولا تزكو نفسه مع قيامها بها. وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة, وكل الآفات متولدة منها. وإذا استحكمت في القلب أرته الباطل في صورة الحق, والحق في صورة الباطل, والمعروف في صورة المنكر, والمنكر في صورة المعروف, وقربت منه الدنيا, وبعدت منه الآخرة, وإذا تأملت كفر الأمم رأيته ناشئا منها, وعليها يقع العذاب, وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها. فمن فتحها على نفسه فتح عليه أبواب الشرور كلها عاجلا وآجلا, ومن أغلقها على نفسه أغلق عنه أبواب الشرور, فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه.

 

 

 

ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربه وجهله بنفسه, فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال, وعرف نفسه بالنقائص والآفات, لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدا على ما أتاه الله, فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله, فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله, ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك. فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته, ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة لأن ذنبه كان عن كبر وحسد. فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده, والرضا به وعنه, والإنابة إليه, وقلع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها, فإن ذلك إيثار لها بالغضب والرضا على خالقها وفاطرها, وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعوّدها أن تغضب له سبحانه وترضى له, فكلما دخلها شيء من الغضب والرضا له خرج منها مقابله من الغضب والرضا لها, وكذا بالعكس.

وأما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها إياها ومنعها منها. وحميتها أعظم أسباب اتصالها إليها, فكلما فتحت عليها باب الشهوات كنت ساعيا في حرمانها إياها, وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعيا في إيصالها على أكمل الوجوه.

 

 

  فالغضب مثل السبع إذا أفلته صاحبه بدأ بأكله, والشهوة مثل النار إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه, والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه فإن لم يهلكك طردك عنه, والحسد بمنزلة معاداة من هو أقد منك, والذي يغلب شهوته وغضبه يفرق الشيطان من ظله. ومن تغلبه شهوته وغضبه يفرق من خياله 

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day