لماذا الإسراء؟
لماذا الإسراء؟ وللجواب على هذا السؤال: قصة! إنها قصة طفل طهور كالربيع!! إنها قصة طفل كريم كالنسيم!! إنها قصة طفل نشأ في مكة في بيئة تصنع الحجارة بأيديها، وتسجد لها من دون الله جل وعلا! بل كان الواحد منهم يصنع إلهه من خشب، أو من نحاس، أو حتى من حلوى أو من تمر! فإذا ما عبث الجوع ببطنه قام ليدس هذا الإله الرخيص في جوفه ليذهب عن نفسه شدة الجوع! في هذه البيئة نشأ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فاحتقر هذه الأصنام، وأشفق على أصحاب هذه العقول، فترك هذه البيئة الشركية وانطلق بعيداً إلى قمة جبل النور.. إلى غار حراء؛ ليقضى ليله ونهاره في التأمل والتفكر والتدبر والتضرع. وفى ليلة كريمة يخشع الكون، وتصمت أنفاس المخلوقات، ويتنزل جبريل أمين وحي السماء لأول مرة على المصطفى صلى الله عليه وسلم على قمة جبل النور، ليضم الحبيب المصطفى ضمة شديدة وهو يقول له: (اقرأ) والحبيب يقول: ما أنا بقارئ، وجبريل يقول: (اقرأ) والمصطفى يقول: ما أنا بقارئ، وفى الثالثة: غطَّه حتى بلغ منه الجهد، وقال للحبيب: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] وانطلق الحبيب بهذه الآيات وفؤاده يرتجف، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تضطرب، حتى وصل إلى السكن.. إلى رمز الوفاء.. إلى سكن سيد الأنبياء.. إلى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها.
وصل إلى هذه الزوجة العاقلة الصالحة التي استحقت أن يسلم عليها ملك الملوك من فوق سبع سماوات، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة : (أن جبريل نزل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فرأى خديجة وهي تقبل على المصطفى، وتحمل إناءً فيه إدام من طعام أو شراب، فقال جبريل: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت، فإن هي أقبلت فأقرئها السلام من ربها).
عش مع هذا بقلبك وكيانك ووجدانك وجوارحك! امرأة تستحق أن يسلم عليها الملك من فوق سبع سموات! إن عبداً من العبيد لو أن هيئة مشبوهة قد كرمته ومنحته جائزة مشبوهة، من أجل تفوقه العفن النتن في مجال الفكر -زعموا- حيث لا أدب ولا فكر، فإنه يرفع على الأعناق وتشير إليه الأصابع، ويحتفى به على أعلى المستويات في هذه الأمة المسكينة التي خدعت على أيدي هؤلاء الذين انطلقوا ليقودوا الأمة على حين غفلة من أهل القيادة والريادة في هذه الأمة! (وأقرئها السلام من ربها ومني -أي: ومن جبريل- وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فلما أقبلت خديجة بَشَّرَهَا المصطفى بهذه البشارة وقال يا خديجة : ربك يقرئك السلام وجبريل يقرئك السلام!! -فماذا قالت خديجة البليغة العاقلة العالمة؟ هل قالت: وعلى الله السلام أم ماذا؟ قالت: إن الله هو السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته). خديجة، عاد إليها النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، وهو يقول: زملوني.. زملوني.. غطوني دفئوني، ضعوا علي الأغطية، فاستجابت خديجة ، حتى استيقظ الحبيب وقد هدأت نفسه، واستقرت جوارحه، وقال: (والله لقد خشيت على نفسي يا خديجة ، وقص عليه، فبشرته بهذه الكلمة الطيبة وقالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً) ... إلى آخر ما ذكرت، والحديث رواه البخاري وهو حديث طويل.