كتاب ربنا مصدر عزنا
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد، إن كتاب الله تعالى فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله تعالى، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله تعالى، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تنفد عبره.
لهذا وغيره كان لزاماً علينا أن نقف مع آياته متدبرين متعقلين متأملين، ولاسيما أن الدوافع المعاصرة كثيرة أقف في هذه العجالة مع واحد من أهمها ألا وهو أهمية ربط واقع الناس به.
فنحن نعيش اليوم واقعاً يملي على العقلاء من الدعاة والمربين والعلماء والموجهين ضرورة ربط الناس بالقرآن والسنة، لما لهما من أثر على حياة الفرد والأمة، فالأمة تعيش وهناً وضعفاً لم تمر بمثله في تاريخها، وكلنا يبحث عن العلاج والعلاج في القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء من الآية: 9]، وكلنا يرجو السلامة والنجاة من مضلات الفتن التي تتابع والنجاة في القرآن، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي».
فرغد الحياة في كتاب الله - جل وعلا -، ومعالجة مشكلات الحياة الفردية والجماعية، الأسرية والاجتماعية في ضوء القرآن الكريم من أقوى وسائل الخروج منها، بل من أقوى أسباب رقي الأمة، والعود بها إلى سابق عهدها، الذي كان يعيشه السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم -، وهذا لا يكون بغير تدبر كتاب ربنا وكلامه الذي أنزله لإصلاح شأننا.
إن أمتنا اليوم تعيش وقتاً حرجاً ومرحلة حاسمة من تاريخها، خاصة بعد الغزو الغربي لأمة الإسلام، وعودة عصور الاستعمار، التي خلت، فبعد أن رزحت الأمة تحت وطأة الاستعمار عقوداً دُرست فيها معالم من علم الشريعة، كانت لا تخفى بين الناس، ثم بدأت آثار الاستعمار تنحسر بقيام الصحوة الإسلامية المباركة في المشارق والمغارب، فلم يجد الأعداء بداً من إعادة الكرة للحيلولة بين الأمة وبين نهضتها.
ولما كان الارتباط بين الأمم السابقة واللاحقة وثيقاً، لتشابه الأحوال والظروف، وتوافق الطبع البشري، وإن اختلفت العصور والآلات، كان من الطبيعي أن تكون في آيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل هو تنزيل من حكيم حميد كان لابد أن تكون آياته دروساً تناسب حال من نزل عليهم القرآن، وكذلك تناسب المسلمين في كل زمان ومكان.
وقد قال الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -:
وبعد فإن حبل الله فينا كتابه *** فجاهد به حَبل العِدا مُتَحَبِّلا
وأَخْلِق به إذ ليس يَخْلَقُ جِدةً *** جديداً مواليهِ على الجِدِّ مُقبِلاً
لقد أنزل القرآن على أمة متناحرة متفرقة متشرذمة، فألف الله به بين القلوب وجمع به الشمل، واليوم تعيش الأمة تناحراً وتفرقاً وتشرذماً بسبب نعرات وجنسيات وحدود مصطنعة كما كان الجيل الأول.
لقد بزغ فجر القرآن ولم تكن للعرب قوة ودولة وكلمة بل همج رعاع مجرد أتباع للفرس أو للروم، فما أضحوا حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر، واليوم يعيش المسلمون تبعية غربية من الطراز الأول!
لقد نزل القرآن على أمة لم تكن لها معارف تذكر أو حضارة تضاهي حضارات الأمم، فما هي إلاّ سنوات وإذا بحضارة الإسلام تضيء أسبانيا وبلاد أوروبا الغربية، ثم لما تنكب الناس الصراط أصبحت تلك الحضارة خبراً للحرف الناسخ كان!
كنا أساتـذة الدنيا وقادتها *** والغرب يخضع إن قمنا نناديه
كانت أوربا ظلاماَ ضل سالكه *** وشمس أندلس بالعلم تهديه
واليوم تقنا لمجد فَرَّ من يدنا *** فهل يعود لنا ماض نناجيه؟
حقاً! هل يعود لنا ماض نناجيه؟ الجواب: نعم إذا عدنا إلى مصدر عز الصدر الأول، إلى الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم، إلى السنة التي عض عليها الرعيل الأكمل.
وقد دل على هذا صريح القرآن وأجمع عليه أهل العلم والإيمان، إنساً وجناً، قال الله -تعالى- مخبراً عنهم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1]، وقال الله سبحانه -: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29-30]، إن كتاب ربنا فيه علم من سبق، ومن قال به صدق، ومن خاصم به فلج، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
فالخطوة الأولى في النهوض بالأمة، والتي ينبغي أن يعيها الدعاة والمربون هي دعوة الناس إلى التمسك بكتاب ربهم والرجوع إليه والاهتداء بهديه، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن التالين له المتدبرين لآياته العاملين بأحكامه المطبقين لها، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته وسلم.