حاجة العبد إلى الاستغفار
للاستغفار شأن عظيم ومنزلة كبيرة ومكانة سامية، ويكفي لبيان عظمة الاستغفار مواظبة الأنبياء عليه ودعوة أقوامهم إليه وثناء الله تعالى على المتلبسين به واللاهجين به في الأسحار، والعبد بالنسبة إلى ربه عز وجل فقير إليه فقر ذات وفقر صفات، واحتياجه إلى ربه عز وجل أمر ذاتي لا ينفكُّ عن العبد في كلِّ لحظةٍ وفي كلِّ حركة وسكنة، ولذلك يتفاوت الناس في إدراك هذا الأمر،
ولَمَّا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعرف الناس بالله كانوا أكثرهم خشيةً وإنابة له، وأشدُّهم تمسُّكًا بهذا الاستغفار، وهكذا العلماء يأتون في المرتبة الثانية بعد الأنبياء في حيازة الخشية والإنابة، لأنَّ من كان بالله أعرف كان له أخوف، قال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) [فاطر: 28],
ولذلك نجد أهل العلم في غالب أحوالهم على هذا المسلك من الاستمساك بالاستغفار، وكذلك وصاياهم به لا تكاد تغيب عن منهجهم في التعليم والتوجيه، فهم يُرغِّبون الناس في المحافظة على الاستغفار، لِما يعلمون ما فيه من السلامة والعصمة ومحق الذنوب وتيسير الأمور للعبد.
قال شيخ الإسـلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى مبينًا حاجة العبد إلى الاستغفار :
" الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإنَّ العابد لله والعارف بالله في كلِّ يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة، يزداد علمًا بالله وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية، وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطرٌّ إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائـب والمشاهد، لِما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضرَّات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية .
وقد ثبتت دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد، واقترانها بشهادة ألاَّ إله إلا الله من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد والاستغفار للخلق كلِّهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكلِّ عاملٍ مقامٍ معلوم، فشهادة ألاَّ إله إلا الله بصدقٍ ويقينٍ تُذهب الشرك كله، دقَّه وجلَّه، خطأه وعمده، أوله وآخره، سرَّه وعلانيته، وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه.
والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شُعَب الشرك، فإنَّ الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول: « لا إله إلا الله»، وأبلغ الدعاء قول: «أستغفر الله»، فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين".
وقال: ".... التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع، فمن أحسَّ بتقصير في قوله أو عمله أو حاله أو رزقه، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار؛ ففيهما الشفاء إذا كانا بصدقٍ وإخلاص، وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان؛ فعليه بالدعاء لهم والاستغفار، قال حذيفة بن اليمان للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ لي لسانًا ذربًا على أهلي. فقال له: «أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة» " ( مجموع الفتاوى قلت: والحديث رواه أحمد والنسائي والدارمي والبيهقي والطبراني عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بأسانيد لا يخلو كلُّ واحد منها من مقال، وله شواهد في الصحيحين ) .