من أي شيء يكون الاستغفار ؟ (2)
ولهذا قال الحسن البصري لما ذكر الحديث: «لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة، فإنَّ صاحبها سدَّد وقارب فارجوه، وإن أُشير إليه بالأصابع فلا تعدوه» (رواه الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بسند حسن).
فقالوا: أنت إذا مررت في السوق أشار إليك الناس.
فقال: إنه لم يعنِ هذا، وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في دنياه؛ فإنَّ ترك الواجب وفعل المحرَّم متلازمان، ولهذا كان من فعل ما نهى عنه يقال: إنه عصى الأمر، ولو قال لها: "إن عصيتِ أمري فأنت طالق"، فنهاها، فعصته ، ففيه وجهان: أصحًّهما أنها تُطلَّق، وبعض الفقهاء يُعلِّل ذلك بأنَّ هذا يُعدُّ في العرف عاصيًا، ويجعلون هذا في الأصل نوعين،
والتحقيق: أنَّ كلَّ نهي ففيه طلب واستدعاء لِما يقصـده الناهي، فهو أمر، فالأمر يتناول هذا وهذا، ومنه: قول الخضر لموسى: ( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) [الكهف: 67 – 69].
و قال له : ( فَإِنِ اتَّبَعْتَنِـي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) [الكهف: 70]، فقوله: ( فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) قد تناوله قوله: ( وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا )، ومنه قول موسى لأخيه: ( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) [طه: 92، 93]، وموسى قال له: ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) [الأعراف: 142]. نهي: وهو لامه على أنه لم يتبعه، وقال: أفعصيت أمري؟ وعباد العجل كانوا مفسدين، وقد جعل هذا كلّه أمرًا، وكذلك قوله: ( عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) [التحريم: 6] فهم لا يعصونه إذا نهاهم.
و قوله عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [النور: 63]، فمن ركب ما نهى عنه فقد خالف أمره، وقال تعالى: ( وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) [طه: 121] وإنما كان فعلاً منهيًا عنه، وقوله: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) [الأحزاب: 36]، هو يتناول ما نُهي عنه، أقوى مما يتناول ما أُمر به، فإنه قال في الحديث الصحيح: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة)،
و قوله : ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ) [النساء: 42] فالمعصية: مخالفة الأمر، ومخالف النهي عاص، فإنَّ مخالف الأمر وفاعل المحظور، قد يكون أظهر معصية من تارك المأمور، وبالجملة فهما متلازمان.
كل من أمر بشيء فقد نهى عن فعل ضده، ومن نهى عن فعل أمر بفعل ضده، كما بسط في موضعه، ولكن لفظ الأمر يعمُّ النوعين، واللفظ العام قد يخصُّ أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام للنوع الآخر، فلفظ الأمر عام، لكن خصُّوا أحد النوعين بلفظ النهي، فإذا قرن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين لا العموم (مجموع الفتاوى (11/670-675)، وقد أوردت غالب النص لما يشتمل عليه من قواعد وفوائد). ا هـ. باختصار.
وأما الاستغفار من المحرَّمات فهو واجب أيضًا، وهو المتبادر عند إطلاق الاستغفار، أنه يكون مِن فعل المحرم، والنصوص الآمرة بالاستغفار من فعل المحرمات أكثر من أن تُحصَى في الكتاب والسنة، من ذلك:
يقول الله تعالى : ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) [النساء: 110].
و يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [آل عمران: 135].
* * *