تبصرة : في مسلك الذكر النبوي
وأما الذكر النبوي؛ فلأنه لا يكاد ينحصر لكثرته فإننا ننتخب منه نموذجاً واحداً للتمثيل التطبيقي، ولنجعل (التسبيح) له مثالاً:
ـ (سبحان الله!): كلمة إجلال وتعظيم تنزيهاً لله رب العالمين. إنها كلمة تنبع من القلب عرف الله، فانبهر بعظمة سلطانه وجلال ربوبيته، وأدركته الهيبة والخشية؛ لما رأى من آيات الملك وعظمة الملكوت! أبصر ذلك مثلا فيما أنكره الملك العظيم على الكفار! قال سبحانه :
{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}
(الزمر:67).
أن تسبح الله معناه أنك تعبده بالتنزيه. والتنزيه أن تعتقد بقلبك، وتدرك بوجدانك أنه سبحانه أعلى وأجل من أن يحيط به فكر، أو أن يتصوره خيال! إنه تعالى فوق التشبيه وفوق المثال! لا يحيط به شيء، وهو يحيط بكل شيء! أن تسبحه يعني أن تنسب إليه تعالى كل صفات الكمال والجلال والجمال، مما وصف به تعالى نفسه من أسمائه الحسنى وصفاته العلي. فهو هو كما وصف نفسه بمراده ومقاصده، جل وعلا. أن تسبح الله يعني أنك تنزهه عن خلقه، تشعر بوجدانك أنه تعالى مفارق لهم ، متعال عنهم واستحضارهذه المعاني يكون بمشاهدة آيات العظمة في الخلق ، وكما الجمال في دقة الصنع. تأمل جيداً معنى الخلق! ركز ذهنك عند المشاهدة البصرية، وعند المطالعة القلبية! وأبصر: كيف كان هذا الكون العظيم؟ الممتد من عالم الشهادة إلى عالم الغيب؟ أبصر كيف تحول الطين في جسم آدم إلى لحم ودم، وإلى جسم ينبض بالحياة! يتذوق ويبصر، ويحس ويشعر، يضحك ويبكي ويحن ويشتهي، ويخاف ويأمن... إلخ أبصر كيف تحول اللاشيء إلى شيء ! وكيف تحول العدم إلى وجوداً اقرأ حروف الكائنات في كتاب الكون الكبير! اقرأ...
{اقرأ باسم ربك الذي خلق!}
(العلق:1).
وهذا يقتضي منك رحلة كونية عظمى، لا تنتهي إلا بانتهاء قدرتك على التتبع الروحي للفضاءات! ترحل في الوجود لتشاهد مدارات الكون، وطبقات الأجرام والسماوات.. وتبصر بعين القلب، تشاهد بروحك العوالم الأخرى .. وتذكر الله : إنه خالق كل هذا! إنه خالق كل شيء. إنه فوقهم جميعاً، متعال عنهم جميعا. إنه ليس له مثيل: سبحان الله ! أني خلق كل هذا وكيف؟ تلك معجزة الخلق، وتلك محيرة العقول، فقل: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله.... حتى ينتهي النفس ، ثم جدد: سبحان الله!
هذه نملة تسترزق قوتها، وتلك نحلة تسلك سبل ربها، وتلك بعوضة تشعر بالحياة، عجباً! سبحان الله! وأمم أخرى أدق وأصغر، لا تدرك بالنظر العادي، تملأ أحشاءنا وتسبح في دمائنا، وتسرح في الفضاءات، وارقب أمم الأرض من سائر الكائنات وسائر الأنواع، وأبصر أمم السماء، وأبصر حشود الملائكة تملأ طبقات السماوات، على امتدادات لا يحصرها خيال!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون: أطت السماء وحق لها أن تنط! ما فيها موضع أربع أصابع؛ إلا وملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً ! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً! وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله
والملائكة على تلك الحال من العبادة أبداً إلى ما شاء الله قال جل وعلا:
{وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون}
(الأنبياء:19ـ 20).
وتسبح الأمم في الأرض لله طوعاً وكرهاً وكل الخليقة أمم. قال تعالى:
{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا امم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}
(الأنعام: 38).
وأبصر بعد ذلك كيف يسترزق الجميع مولاهم الملك الرزاق؟ هو وحده يرزق هو وحده يعطي، هو وحده يمنع، هو وحده يحيي، هو وحده يميت، هو (الحي القيوم)، يقوم بأمر الكون كل الكون؛ خلقاً، وإحياء، وإماتة، وتقديراً. لا يتحرك شيء في الكون- مهما دق أو صغر – إلا بإّذنه! قال سبحانه
{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}
(الأنعام: 59)
ويدير كل شيء! لا يشغله شيء عن شيء! وذلك اسمه (القيوم). ونحن خليقته نسأله في الزمان الواحد، ويعطي كل واحد مسألته! وهو تعالى فوق الزمان والمكان، لا يحصره زمان ولا يحيطه مكان. بل هو بكل شيء محيط، جل وعلا، سبحانه هو خالق الزمان والمكان! ثم انطلق! انطلق إلى مولاها! ومر على العوالم مرة أخرى، وشاهد كل ذلك، وقل سبحانالله! تعالى الله عن كل شيء علواً كبيراً. أخي يا رفيق الطريق! ليس كل من نطق بعبارة التسبيح قد سبح الله! .. فسبح الله! سبح الله ! سبح الله!
تلك لمعة من لمعات التسبيح، وومضة من ومضاته، ومضة أقل من أثر برق! ضرب هنا ثم انتهى قبل أن تدركه عين!
وكما يكون التسبيح رحلة كونية لتنزيه رب الكون؛ كذلك يكون التحميد (الحمد لله) رحلة كونية لشكر رب العالمين، ويكون التهليل (لا إله إلا الله) رحلة كونية لتوحيد رب الكون، ويكون التكبير (الله اكبر) رحلة كونية لتعظيم رب الكون! ولكن لكل عبارة مراكبها، ولكل حملة مشاهدها، ولكل نعمة ذوقها وجمالها؛ فاذكر الله! واقرأ إن شئت قول الله تعالى:
{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}
(آل عمران 190ـ 191).
وسبق إيراد الحديث النبوي العجيب (وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض!) فانظر وتدبر: هل أنت فعلاً ممن يقرأ ويذكر؟ أم أنك لم تبدأ بعد؟ وإذن ماذا تنتظر؟ وهذا العمر يمضي لا ينتظر أحداً!