صور من عبادة السر : 6- الدّعاء ، 7- الصيام ، 8- الصّدقات
6- الدّعاء:
قال تعالى:
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾
: قال ابن جرير: تضرّعا تذلّلا واستكانة لطاعته. وخفية يقول: بخشوع قلوبكم، وصحّة اليقين بوحدانيّة وربوبيّته فيما بينكم وبينه لا جهارا مراءاة".
وعن الحسن قال: إن كان الرّجل لقد جمع القرآن وما يشعر به النّاس، وإن كان الرّجل لقد فقه الكثير وما يشعر به النّاس، وإن كان الرّجل ليصلّي الصّلاة الطّويلة في بيته وعنده الزَّوْر وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السّرّ فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدّعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلّا همسا بينهم وبين ربّهم وذلك أنّ اللّه تعالى يقول:
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾
، وذلك أنّ اللّه ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال:
﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ﴾
[مريم: 3].
قال ابن جريج: ((يكره رفع الصّوت والنّداء والصّياح في الدّعاء، ويؤمر بالتّضرّع والاستكانة)).
وقال قتادة:"إنّ اللّه يعلم القلب التّقيّ، ويسمع الصّوت الخفيّ ".
7- وفي الصيام:
فمن أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير، قال الفلاس، سمعت ابن أبي علي يقول: (صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل معه غذائه فيتصدق به في الطريق).
وكان بعضهم إذا أصبح صائما ادَّهَنَ، ومَسَحَ شَفَتَيهِ من دُهْنِهِ حتىّ ينظر إليه الناظر فلا يري أنه صائم.
وذكر الذهبي في السير أن محمد بن واسع كان يسرد الصوم ويخفيه ".
8- الصّدقات:
قال تعالى
قال تعالى ﴿ إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
[البقرة: 271]،
والآية الكريمة ظاهرة في تفضيل صدقة السِّر على صدقة العلانية،
وقال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[البقرة:274]
فقدّم تعالى صدقة السّرّ عن العلانية، وصدقة اللّيل عن النّهار لخفائهما، وبعدهما عن الرّياء والمباهاة، وحظوظ النّفس المريضة، وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول بسند حسن قال: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كانت عنده أربع آلاف درهم فأنفق درهما سرّا، وآخر علانية، وآخر باللّيل، وآخر بالنّهار.
وجاء من السّبعة الذين يظلّهم الله - تعالى - يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه:
((رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه،...)).
قال الحافظ: قوله " بِصَدَقَةٍ " نَكَّرَهَا لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ قَلِيل وَكَثِير، وَظَاهِره أَيْضًا يَشْمَل الْمَنْدُوبَةَ وَالْمَفْرُوضَةَ، لَكِنْ نَقَلَ النَّوَوِيّ عَنْ الْعُلَمَاء أَنَّ إِظْهَار الْمَفْرُوضَة أَوْلَى مِنْ إِخْفَائِهَا.
وقد تقدّم حديث الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصّدقة، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصّدقة، وفيه دليل عظيم على فضل صدقة السّر على العلانية.
وفي المسند عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((لما خلق الله تبارك وتعالى الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا ربّ هل من خلقك شيء أشدّ من الجبال، قال: نعم الحديد، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد، قال: نعم النار، قالت: يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من النار، قال: نعم الماء، قالت: يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من الماء، قال: نعم الريح، قالت: يا ربّ فهل من خلقك شيء أشدّ من الرّيح، قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها من شماله".
وكانت شيمة السّلف الإنفاق سرّا وعلانية، بل كانوا يحرصون على صدقات السّرّ أكثر منها علانية لما فيها من الذّخر الجميل عند الرّبّ الجليل، فعن عن أبي حمزة الثمالي: أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرّبّ.
وعن محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل. وعن عمرو بن ثابت: لما مات علي بن الحسين، وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل. وقال شيبة بن نعامة: لما مات علي وجدوه يعول مئة أهل بيت.
قال الذهبي: لهذا كان يبخل، فإنه ينفق سرا، ويظن أهله أنه يجمع الدراهم وقال بعضهم: ما فقدنا صدقة السر حتى توفي ".