صور من عبادة السر9- البكاء في الخلوات
البكاء عبادة الخاشعين، وأنس الأواهين المخبتين، وزينة العابدين المحبين، وقد جاء في القرءان والسنة صفة البكائين من أهل العلم والإيمان، والخشية من الرحمان
قال تعالى
﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) ﴾،
وجاءت الأحاديث الكثيرة التي تميط اللثام عن فضل البكاء من خشية الله في الخلوات، ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم سيد البكائين من خشية الله تعالى سرّا وعلناً فعبد الله بن الشخير عن أبيه قال:
((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء))
، قد روت أمنا عائشة رضي الله عنها أن قامت تفتقد حاله فإذا هو ساجد ودموعه تهمي"، كما في حديث السّبعة الذين يظلّهم الله - تعالى - يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه وذكر فيه
((... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ))
حديث البخاري
.
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
((عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ))
أخرجه الترمذي (1639).
وعن زائدة: "أنّ منصور بن المعتمر مكث ستّين سنة يقوم ليلها، ويصوم نهارها، وكان يبكي، فتقول له أمه: يا بنيّ! قتلت قتيلاً؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي. فإذا كان الصّبح كحّل عينيه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى النّاس).
وقال محمد بن واسع: "لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خدّه من دموعه لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصّف فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جانبه".
وذكر الذهبي في السير عن محمد بن زيد – رضي الله عنه ورحمه- قال:
(كان أيوب السختياني في مجلس، فجاءته عبرة، فجعل يمتخط ويقول ما أشد الزكام).
يُظهر-رحمه الله تعالى- أنّه مزكوم لإخفاء البكاء؛ هكذا حرصهم على هذه الصفة السر في الأعمال،تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى، فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعاته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدّمعة.كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره، وذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد يوم قال: (إن كان الرّجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردّها، فإذا خشي أن تسبقه قام).
ولقد كان ابن المبارك رحمه الله تعالى مرفوع الذّكر عند الناس لنقاء سريرته، وخفاء طاعاته وبكائه، يقول أحد تلاميذ ابن المبارك: سافرت مع عبد الله ابن المبارك فرأيته في السفر فقلت: سبحان الله يصلي كصلاتنا، ويقرأ كقراءتنا، ويصوم كصيامنا، ورفع الله له الذكر الحسن في الناس، ورفع الله له مكانته في العالمين، فبماذا؟
قال: فدخلنا حجرة ونحن مسافرون فانطفأ السراج علينا، فذهبنا نلتمس سراجاً نستضيء به، فأتينا ابن المبارك بعد ساعة بالسراج فإذا هو في الظلام يبكي ودموعه تتحدر من رأس لحيته.
قلنا: مالك يا أبا عبدالرحمن؟
قال: والله لقد ذكرت القبر بهذه الغرفة المظلمة الضيقة فكيف بالقبر؟
فعلم هذا التلميذ مصدر السر وراء هذه المنزلة العالية لابن المبارك.. إنها الخشية والخوف من الله.