أنفع التفكير
خامساً: أنفع التفكير ..
التفكير يتفاوت منه ما هو ضار و منه ما هو نافع و النافع من التفكير أيضاً يتفاوت فمنه ما هو أعظم نفعاً و منه ما هو دون ذلك، فأنفع التفكير هو التفكير في مصالح المعاد.. الآخرة و في طرق اجتلابها و في دفع مفاسد المعاد و في طرق اجتنابها فهذه أربعة أمور تُنزل على الأمور الأربعة التي ذكرتها في أول الكلام في مجالات التفكير، أنفع التفكير أن تفكر في الغاية المحمودة في الآخرة و كيف تحصل على مطلوبك فيها ( وسيلة ) و أن تفكر في الغاية المرهوبة في الآخرة و أن تفكر في الأمور التي تتخلص بها من هذه الغاية المرهوبة فهذه أربعة أمور هي أجل الأفكار كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى
و يليها أربعة أولها فكر في مصالح الدنيا
ويعقبها التفكير في وسيلة ذلك وهذا هو الثاني كيف نحصل مصالح الدنيا
والثالث التفكير في مفاسد الدنيا
ويعقبه الرابع وهو وسيلة ذلك التفكير في الوسيلة التي نتلافى فيها مفاسد الدنيا ونحترز من ذلك
فهذه ثمانية أمور تدور عليها أفكار العقلاء.. الغاية المطلوبة في الآخرة..
الوسيلة الموصلة إليها..
الغاية المرهوبة في الآخرة..
الوسيلة المفضية إلى ذلك..
الغاية المطلوبة في الدنيا..
الوسيلة المفضية إليها..
الغاية المكروهة في الدنيا..
الوسيلة المنجية منها..
العقلاء يفكرون في هذه الأمور الأربعة أما الأول و هو ما يتعلق بالآخرة فرأسه الفكر في آلاء الله و نعمه و أمره و نهيه و طرق العلم به و بأسمائه و صفاته من كتابه و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم و ما والاهما و هذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة و المعرفة فإذا فكر في الآخرة و شرفها و دوامها و في الدنيا و خستها و فنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة و الزهد في الدنيا و كل ما فكر في قصر الأمل و ضيق الوقت أورثه ذلك الجد و الاجتهاد و بذل الوسع في اغتنام الوقت و هذه الأفكار تعلي همته و تحييها بعد موتها و سفولها و تجعله في وادٍ و الناس في واد، و من المعلوم أيها الإخوة و الأخوات أن من يتطلب شيئاً و يسعى لتحصيله لمحبته له و إيثاره لهذا الشيء على غيره و يجتهد غاية الجهد و يبذل غاية الوسع في الظفر به فإن ذلك يعني تعلقه بهذا الشيء و أنه يحبه و يقدمه و يؤثره على غيره هذه المحبة هي التي تبعثه على العمل و الجد في تحصيل هذا المطلوب و هكذا كلما كان يبغض شيئاً فإنه ينفر منه و ينفر من الأسباب التي توصله إليه و يتعاطى الأسباب التي تباعده عنه فالحاصل أن من أحب الله عز و جل محبة استغرقت عليه قلبه فإنه يسعى جاهداً لتحصيل مرضاته و لا يفكر في شيء إلا في هذا المطلوب و هو تحصيل مرضاة الرب ما هو الذي يرضيه..
و ما هو الذي يحبه.. و ما هي الأمور التي يكرهها.. إن اتصف العبد بها فيتجنب ذلك وهذا شيء مشاهد في محبة الخلق لأهل الدنيا فإن من أحب أحداً من الناس امرأة أو غير ذلك فإنه يبحث عن الأمور التي يحبها هذا المحبوب فيسعى لتحصيلها و ينظر في الأمور التي تنفره منه فيسعى لمجانبتها و لا يمكن أن يتصف بها فالحاصل أن الإنسان الذي قد ملئت محبة هذا المحبوب قلبه لا يشغل فكره إلا في الأمور التي تقربه إليه و في النظر في الأمور التي تباعده عنه و هو بهذا الاعتبار بالنسبة لله عز و جل يكون متفكراً في أوصاف كمالاته سبحانه و تعالى و يتفكر أيضاً في أفعال الرب جل جلاله و في إحسانه و بره و لطفه و كذلك أيضاً إذا نظر في حال نفسه فهو يفكر في الأمور التي يكرهها ربه فيتجنب ذلك
و يتفكر أيضاً في الصفات التي يحبها ربه أن توجد فيه فيتصف في هذه الصفات فالفكرتان الأولتان توجبان له زيادة محبته وقوتها وتضاعفها والفكرتان الآخرتان توجبان له محبة محبوبه له وإقباله عليه وقربه منه وعطفه عليه وإيثاره على غيره فالمحبة التامة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة فالفكرة الأولى والثانية تتعلق بعلم التوحيد وصفات الإله المعبود سبحانه وأفعاله والثالثة والرابعة تتعلق بالطريق الموصلة إليها وقواطعها و آفاتها و ما يمنع من السير فيها إليه فتفكره في صفات نفسه يميز له المحبوب لربه منها من المكروه له وهذه الفكرة توجب ثلاثة أمور الأول أن هذا الوصف هل هو مكروه مبغوض لله أم لا الثاني هل العبد متصف به أم لا الثالث إذا كان متصفاً به فما طريق دفعه والتخلص منه والرابع إن لم يكن متصفاً به فما طريق حفظ الصحة و الوقاية و العافية من هذا الأمر.. كيف يحترز منه
و كذلك الفكرة في الصفة المحبوبة التي يحبها الرب تستدعي ثلاثة أمور الأول: أن هذه الصفة هل هي محبوبة لله عز و جل مرضية له.. التي تريد أن تعملها
الثاني: هل العبد متصفاً بها.. إذا كان يحبها الله هل اتصفت بها
الثالث: أنه إذا كان متصفاً بها فما طريق حفظها و دوامها
الرابع: إن لم تكن متصفاً بها فما طريق التخلق بها و تحصيلها ثم فكرة العبد في الأفعال أيضاً على هذين الوجهين و مجاري هذه الأفكار و مواقعها كثيرة جداً كما يقول ابن القيم رحمه الله لا تكاد تنضبط يقول و أنا أحصرها في ستة أجناس الأول في الطاعات الظاهرة الثاني في الباطنة الثالث في المعاصي الظاهرة الرابع في الباطنة الخامس في الصفات و الأخلاق الحميدة السادس في الصفات و الأخلاق الذميمة هذه ستة أمور..طاعات ظاهرة طاعات باطنة.. معاصي ظاهرة معاصي باطنة.. أخلاق حميدة و أوصاف..أخلاق ذميمة و أوصاف.. فهذه مجاري التفكير في صفات النفس و في أفعال النفس أما التفكير في صفات الخالق سبحانه و تعالى و في أفعاله و أحكامه فهذا يوجب له التمييز بين الإيمان و الكفر..و التوحيد و الشرك..و الإقرار و التعطيل.. و تنـزيه الرب عما لا يليق به و وصفه بما هو أهله من الجلال و الإكرام و مجاري هذه الفكرة تدبر كلامه و ما تعرّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه و صفاته و أفعاله و ما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له و لا يليق به سبحانه و تعالى و تدبر أيامه و أفعاله في أوليائه و أعدائه التي قصها على عباده و أشهدهم إياها ليستدلوا بها على أنه إلههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له و يستدل بها على أنه على كل شيء قدير و أنه بكل شيء عليم و أنه شديد العقاب و أنه غفور رحيم و أنه العزيز الحكيم و أنه الفعال لما يريد.. إلى آخر ما ذكر ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة