الرابع : مما يعين على الإخلاص
قطع الطمع من المخلوقين و عدم الالتفات إلى مدحهم ، وهذا لا يمكن أن يتحقق للعبد إلا بمعرفة الرب معرفة صحيحة ، و معرفة الخلق بضعفهم و عجزهم ، فإذا حصل للعبد صبر على تصحيح النية و الإرادة و القصد و كبح النفس ، مع يقينٍ بوعد الله عز وجل و بجزائه ، فإنّ العبد يعان على تحقيق الإخلاص إذا عرف العبد ربه و عظمته بأسمائه و صفاته ، فإنّه يتوجه إليه بقلبه بكليته فيتضاءل الخلق أمام الله عز وجل و يكونون كلا شيء ، و إذا عرف العبد حال الخلق و ضعفهم و ثنائهم و عجزهم على أن يحصلوا لأنفسهم نفعاً أو يدفعوا عنها ضرراً ، فإنّه ينقطع طمعه بما عندهم ، هؤلاء الناس مساكين ، هؤلاء الناس فقراء ضعفاء ، يعجزون عن إقامة أنفسهم و عن جلب المصالح لذواتهم ، فكيف يرجو العبد منهم أن يحققوا مطالبه و أن يجلبوا مآربه ، الله عز وجل هو الذي بيده ملكوت كل شيء و خزائن السموات و الأرض بيده ،
أما المخلوق فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه ضراً و لا نفعاً ، و لا أنفع أيها الأخوة و الأخوات للعبد من أن يعرف هذا المعنى ، أن يعرف عظمة المعبود و أن يعرف ضعف المخلوق ، و بهذا يتوجه إلى الله عز وجل ، و يرجو ما عنده ، و يحقر المخلوقين في ذات الله جلّ جلاله ، تأمل فيما حولك من أحوال المخلوقين ، تأمل حال هذا المخلوق إذا جاع ، كيف يكون شأنه و حاله ؟ تأمل حال هذا المخلوق إذا عطش ، كيف يكون حاله ؟ كيف ترتعش أطرافه ؟ تأمل حال هذا المخلوق إذا أصابه مرض أو صداع أو ألم ، كيف تتحول قوته و جبروته إلى ضعفٍ و عجز ، فيكون أسيراً لهذا المرض ، يطلب البرء ، و يسأل من لقيه لعله يجد شفاءً له ، تأمل في حال هذا المخلوق حينما يكون في قوته و نشاطه و حيويته ، و ما يمضي عليه ساعات حتى يبدأ بالذبول ، و يتحول هذا النشاط إلى ضعف و خمول و عجز ، ثم يبدأ يصارع النوم ، و هو نقص في الحياة و موتة و وفاة ، يبدأ هذا الإنسان بمظهرٍ يجلب الشفقة ، يصارع جفنه لألا ينام فيُغلب ، فلننظر إليه في حال نومه ، كيف يكون قد أسلم يده و رجله و أسلم نفسه ، لا يدري شيئاً عما حوله ، و لربما كان فرحاً بنفسه ، و لربما تزوج من امرأة فرحاً بهذا الزواج ، و هو في أول أيامه التي يُظهر فيها أحسن ما عنده و يتمتع بأنواع الملاذ ، انظر إلى حاله أو إلى حال امرأته ، إذا سقطت كأنها قطعة قماش نائمة ، انظر إلى ضعفها و عجزها ، و انظر إلى ضعفه و عجزه و مسكنته ، هذا الذي يذهب و يجيء و يُفاخر و يُباهي و يتحدث عن أعماله و عن صولاته و جولاته ، انظر إليه حينما يذبل و ينام كيف يكون ، كيف يكون هذا الإنسان الذي يتحدث أقاربه و أصحابه عن هذه المناسبة و هي زواجه مثلاً ذهب و جاء ، و يتحدثون أين حلّ و أين ارتحل و أين سافر و أين نزل ، و ما صنع في هذه السفرة أو تلك ، ثم إذا نظرته و تأملت إلى حاله في حال النوم ، فإنّ ذلك ربما جلب الشفقة على هذا الإنسان و انكسر قلبك عليه ، بل ربما استنفرت دموع عند من له عقل .
هذا حالنا أيها الإخوان ، الإنسان ضعيف فقير مسكين عاجز و إذا كان بهذه المثابة ، ثم يتحول إذا مات إلى جيفة منتنة قذرة ، لو أنّه نُسي في بيته أو لم يعرف أحداً بموته ، لربما انزعج من بالحي بسبب رائحته ، فتغير الهواء و تلوث بسبب رائحة هذا الإنسان ، الذي كان يأكل أطيب المطعومات و ينام على ألين الفرش ، هذا الإنسان أيها الإخوان هذا حاله ، و من كان هذا حاله و هو من نطفة قذرة و هو ضعيف ، فإنّه لا يُلتفت إليه و لا يستحق أن يُوجه السجود من أجله ، و لا يستحق أن تنفق الأموال ، بل و لا يُنفق هللة واحد و يُتوجه بها إليه ، لا يستطيع أن يجازيك و لا يستطيع أن يجلب لك نفعاً ، و الناس ماذا تريد من مدحهم ؟! إذا أعجبتهم بالغوا في مدحك و كذبوا ، و إذا أبغضوك بالغوا في ذمك و ألبسوك ثوباً ليس لك ، و رموك بأقبح الأوصاف التي يبالغون فيها بالطعن عليك و الشناعة ، هذا حال الناس ، و يخفى عليهم كثير من أحوالك ، لربما يعجبون بظاهرك و الله يعلم من باطنك ما تستحق به الغضب و العقوبة و النار ، فأي خيرٍ في توجيه الأعمال إليهم ؟! و أي خيرٍ في تعلق القلب بهم أيها الإخوان ؟!
أما الملك الديان الذي لا يموت فهو عالم بكل شيء ، في يده خزائن السموات و الأرض ، هو العظيم الأعظم الذي يستحق أن يُعبد وحده ، فدع عنك الالتفات إلى المخلوقين ، و يكفي قبحاً و مذمةً في ذلك أنّ الناس إذا شموا رائحة ذلك منك ، فإنّهم لربما أطروك و مدحوك و أثنوا عليك و على أعمالك ؛ لأنّهم يعلمون أنك تطرب لذلك ، فيتوصلون إلى تحصيل مقاصدهم منك ، أو لكف شرك عنهم بمدحك و بالثناء عليك زوراً و بهتاناً ، و أي خيرٍ
في هذا ! أن يُثني الناس عليك لأنّك تحب المدح ، نحن نسمع في بعض الأحيان أنّ فلاناً من الناس لربما كُفي برجلٍ عرف هذا المدخل في نفسه و يذهب إليه و يطريه و يُثني عليه ، و يُلقي إليه ألوان المدائح ، و يحصل مطلوبه أو مطلوب غيره منه بعد أن مدحه ، و ما الخير في هذا المدح أيها الإخوان الذي يكون بهذه المثابة ! نسأل الله العفو و العافية ؛ فهذا الأمر أيها الإخوان و هذا الالتفات لا يجتمع مع الإخلاص أبداً حتى تشيب مفارق الغرباني .
و في هذا المعنى يقول بن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد ، يقول : " لا يجتمع الإخلاص في القلب و محبة المدح و الثناء و الطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء و النار ، و الضب و الحوت ، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فاقبل على الطمع أولاً فأذبحه بسكين اليأس ، و أقبل على المدح و الثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة ، فإذا استقام لك ذبح الطمع و الزهد في الثناء و المدح سهل عليك الإخلاص ، فإن قلت و ما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع و الزهد في الثناء و المدح ، قلت أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنّه ليس من شيء يطمع فيه إلا و بيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره و لا يؤتي العبد منها شيئاً سواه ، و أما الزهد في الثناء و المدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه و يزين ، و يضر ذمه و يشين ، إلا الله وحده ، كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه و سلم : إنّ مدحي زين و ذمي شين ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ذلك الله عز و جل .
فازهد في مدح من لا يزينك مدحه و في ذم من لا يشينك ذمه ، و ارغب في مدح من كل الزين في مدحه و كل الشين في ذمه ، و لن يقدر على ذلك إلا بالصبر و اليقين ، فمتى فقدت الصبر و اليقين ، كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب ،
قال الله تعالى :
( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ )
، و قال تعالى :
( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون ) " .
و يقول أيضاً في مدارس السالكين ، يقول في الإخلاص و المتابعة ، يقول : " أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة ،
وهم أهل " إياك نعبد " حقيقة ، فأعمالهم كلها لله ، وأقوالهم لله ، وعطاؤهم لله ، ومنعهم لله ، وحبهم لله ، وبغضهم لله ، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده ، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا ، ولا ابتغاء الجاه عندهم ، ولا طلب المحمدة ، والمنزلة في قلوبهم ، ولا هربا من ذمهم ، بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور ، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فالعمل لأجل الناس ، وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ، ورجاؤهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم البتة ، بل من جاهل بشأنهم ، وجاهل بربه ، فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم ، ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله ، وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه ، ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق ، وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم " .
و لم يغتر بمدحهم و ثنائهم و إطرائهم .
هذا عبد الله التهامي رحمه الله كان الناس يُظهرون الإعجاب به و تعظيمه و يفخمون أمره جداً ، و قد أكثر الناس عليه يوماً من قولهم : أنت أنت - على سبيل المدح - ، فتغير لونه و تكدر صفوه ، و نظر إلى هذا القائل الذي قال له : أنت أنت ، نظر إليه شزراً و قال منكراً عليه : أإله مع الله ؟!
أين هذا ممن يطرب و يُسر و يبتهج حينما يسمع الناس يطرونه و يثنون عليه ، قال : أإله مع الله ؟! ثم قال : عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء .