و أما في كتمانهم في صلاة الليل فأمرٌ عجب !
كان الواحد منهم كما قال بعض السلف : يدخل في فراش زوجته ثم يخادعها – كما ذكرنا سابقاً - كما تخادع المرأة صبيها ، فينسل لصلاة الليل إذا نامت دون أن تشعر به .
و كان أيوب السختياني رحمه الله يقوم الليل كله فيخفي ذلك ، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة .
و من دقتهم في إخفاء السهر و صلاة الليل ، ما وقع من رجاء بن حيوة و هو من علماء التابعين ، حيث رأى رجلاً في المجلس يداعبه النعاس و يغالبه النوم ، و هذا بعد الصبح ، بعد الفجر ، فقال له : انتبه لا يظنون أنّ هذا عن تَسهّر ( يعني لئلا يتوهم أحد المشاهدين أنّ هذا من طول السهر لصلاة الليل ) ، لاحظوا الدقة ! هذا رجل
الآن ما جلس يصلي و يرائي ، ينعس ، و النعاس ضعف في الإنسان و فتور طبيعي يعتريه ، و لربما إذا رأيت إنساناً ينعس في مجلس الدرس لربما استصغرته ، و مع ذلك يقول له انتبه لا يدخل عليك الشيطان من هذا المدخل ، من النعاس ، لئلا يظن الناس أنّ هذا عن تسهر .
بل إنّ عبد الرحمن بن أبي ليلى كان يصلي في بيته ، فإذا شعر بأحد قطع صلاته النافلة و نام على فراشه كأنّه نائم ، فيدخل الداخل و يقول : هذا لا يفتر من النوم ، غالب وقته على فراشه نائم ، و ما علموا أنّه يصلي و لكنّه يُخفي ذلك عليهم .
وصحب رجلا ً محمد ابن أسلم ، فقال : لازمته أكثر من 20 سنة ، لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع في مكانٍ يراه الناس إلا يوم الجمعة ، و سمعته كذا و كذا مرة يحلف و يقول : لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفاً من الرياء .
وكان يدخل بيتاً له و يُغلق الباب لا ندري ما يصنع ، و مرة سمعت ابناً له الصغير يحكي بكائه - يقلده في البكاء ، الولد الصغير يقلد والده في البكاء - ، فقالت له أمه : اسكت ، يقول : فسألتها ، قالت : إنّ أباه يدخل هذا البيت ( يعني حجرة في البيت ) ، فيقرأ و يبكي ، فيسمعه الصبي ، فيحكيه - الصبي يحاكي الأب بالبكاء ، يقلده ، صبي يلعب يقلد الأب ، فالأم تقول له : اسكت - ، و كان إذا أراد أن يخرج من هذه الحجرة غسّل وجهه و اكتحل ؛ لئلا يُرى عليه آثار البكاء .
و كان يصل قوماً بالصدقة ، و يقول لمن يرسله : انظر لا يشعر بك أحد ، و لا يطلع عليك أحد .
و جاء رجل - و هذه من أعجب الأشياء - يقال له حمزة ابن دهقان ، جاء لبشر الحافي العابد الزاهد المعروف ، فقال له : أحب أن أخلو معك يوماً ، قال : لا بأس نحدد يوماً لذلك ، يقول : فدخلت عليه يوماً دون أن يشعر ، فرأيته قد دخل قبة – دخل مثل الخيمة - ، فصلى فيها أربع ركعات ، يقول لا أُحسن أن أصلي مثلها ، - أربع ركعات في غاية الخشوع و الكمال - ، يقول : فسمعته يقول في سجوده : " اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ فَوْقَ عَرشِكَ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الشَّرَفِ ( يقصد الذل يعني الخمول ، و ليس الخمول يعني الكسل ، الخمول يعني الضعة و عدم الشهرة و الرفعة في الدنيا ) ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ فَوْقَ عَرشِكَ أَنَّ الفَقْرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الغِنَى ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ فَوْقَ عَرشِكَ أَنِّي لاَ أُوْثِرُ عَلَى حُبِّكَ شَيْئاً " ، هذا كلام صعب ، يصعُب على الإنسان أن يقوله و يُشهد الله عز وجل عليه ، و كان يقوله في هذا المكان ، يقول : فلما سمعته أخذني الشهيق و البكاء ، ما تمالك نفسه ، يقول : فجلست أبكي بصوت ، فقال : " اللَّهُمَّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَوْ أَعْلَمُ أن هذا ههنا لَمْ أَتَكَلَّمْ " ، انظر إلى إخلاصه و انظر إلى مناجاته لربه في السر ماذا يقول .