الم يأن للذين امنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)
ألم يحن الوقت لكم لتخشع قلوبكم للذكر؟ وإذا لم تخشعوا الآن، فمتى تخشعون؟
قال تعالى:
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ {16}) (الحديد)
يعاتب الله في هذه الآية المؤمنين، لتأخرهم في الخشوع والتوبة والإنابة، ويقول لهم: ألم يحن الوقت لكم لتخشع قلوبكم للذكر؟ وإذا لم تخشعوا الآن، فمتى تخشعون؟
وإذا لم تستغلوا الفرصة الآن فمتى تستغلونها؟
"يأن": فعل مضارع بمعنى "يحين"، تقول: أنى الوقت، أي حان وحل وجاء، وتقول لآخر معاتباً: ألم يأن لك أن تفعل كذا؟ بمعنى: أما آن لك فعله؟
وتدعو الآية المؤمنين إلى المسارعة إلى التوبة والاستغفار، والتزكية والخشوع، والاستقامة على طاعة الله، والابتعاد عن معصية الله، والانتهاء من حالة الغفلة والكسل، وعدم التواني والتثاقل والتأخير والتسويف..
إن المشكلة التي يعاني منها كثيرو منا هي في التأجيل والتسويف، كأن يقول أحدهم: عندما أنتهي من كذا سأتوب وأستقيم، وعندما يوشك على الانتهاء منه، يأتيه شاغل آخر فيؤجل التوبة لحين الانتهاء منه، ثم يأتيه ثالث ورابع وخامس! وهكذا تتوالى عليه الشواغل وهو يؤجل، ويؤخر ويسوِّف! فيخرج من هذه الحياة وهو لم يفعل ما أجّله منذ سنوات وسنوات.
وحل المشكلة يكون بالمبادرة إلى التوبة والاستقامة، والخشوع والاستغفار، وترك ما يعتقد أنه يعيقه عن فعل ما يريد، والمباشرة بأداء ما نواه من فعل الخير، والاستفادة مما يهيئه الله له من الأجواء والظروف المناسبة، مثل أجواء رمضان والصيام والقيام والقرآن، فإذا لم يستفد من هذه الأجواء المساعدة والعوامل المعينة فمتى يستفيد إذن؟ ولقد كانت هذه الآية سبباً في توبة أحد كبار العلماء السابقين، فقد كان قبل توبته مسرفاً على نفسه، مرتكباً للمحرمات، يشرب الخمر، ويقطع الطريق، ويسطو على البيوت في الليل.
وفي ليلة من الليالي توجّه وقت السحر إلى بيت ليسرقه، ولما تسلق سور البيت ليسرقه إذا بفتاة صغيرة، مستيقظة وقت السحر، تصلي التهجد، فرآها وهي تصلي، وسمعها وهي تتلو هذه الآية، ففتح لها أذنه وقلبه، وأدخلها في كيانه وروحه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)؛ فقال متأثراً: بلى والله! لقد آن الأوان وحان الوقت، ونزل عن السور، وعاد إلى بيته، وتتابعت خواطره أثناء عودته، واستعرض السنوات التي قضاها في السرقة والفجور والضياع، ودموعه تتساقط من عينيه، وتفعل الجملة فعلها فيه تطهيراً وتزكية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)، واغتسل، وأعلنها توبة صادقة لله، وما أن أذَّن الفجر حتى كان في الصف الأول في المسجد، وترقى في العلم والعمل والتقوى.. فحتى متى نبقى هكذا؟ أما آن أوان التوبة؟
قال الخليل رحمه الله الإمام اللغوي في شأن العتاب: هو خطاب المُحب، وموجدته على مَن أحب، فالله سبحانه هو الودود لعباده، خاطبهم بهذا الخطاب العظيم: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾، ألم يحن الوقت يا عبد الله أن تتأمل حالك؟ وهل أنت على الحال التي أراد الله منك، أم أنك على خلاف ذلك؟
فالله سبحانه يقول لعباده: ألم يأن لكم أيها المؤمنون الذين شُرِّفتم وأُنعم عليكم بهذه الخصلة العظيمة وهي الايمان - أن تخشع قلوبكم لذكر الله؛ أي: تلين عند الذكر والموعظة، وعند سماع القرآن؛ لتتفهَّمه وتنقاد له، وتسمع لربها وتُطيع، فهذا وصف أهل الإيمان:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2].
هذا حال المؤمن المقبل على ربه جل وعلا، وبخاصة عند سماع كلامه أعظم الكلام، وأشرفه وأصدقه الذي هو شرفٌ لمن يستمع إليه، ولمن يقرأه، وأعظم الشرف لمن يعمل به؛ ولذا قال الله تعالى في شأن المؤمنين، أنهم إذا قُرِأَ عليهم القرآن وإذا سمعوا آيات الله، تَلين قلوبهم لذكر الله، وأنهم حينما يسمعون هذا الكلام يَحصُل عندهم خوف ووجل:
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23].
هذه الحال التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتَبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة من نزول القرآن".
يعني: نزلت هذه الآية التي فيها العتاب الرباني بعد ثلاثة عشر عامًا من بدء نزول القرآن، وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتَبنا الله جلَّ وعلا بهذه الآية: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ - إلا أربع سنين.
وهذا العتاب كما تنزَّل على الأئمة الكرام والصحابة العظام، فنحن أحرى وأولى به بعد تطاوُل هذا الزمان،
فمن سمِع القرآن الكريم ولم يحضر قلبُه، ولم تدمع عينُه، ولم تخشع نفسُه - فإنه ينبغي أن يراجع نفسه، فهو على خطر عظيم أن يسمع القرآن ولا يُحدِث عنده تغيُّرًا، ولا يحمله على الاستقامة، هذا مؤشر عظيم على أن ثمة خللاً وهو الران الذي أحاط بالقلب؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]
فمن سمع كلام الله ولم يتدبره، ولم يُحدِثْ له خشوعًا، فهذا مؤشرٌ على أن قلبه عليه قفل يَمنعه من أن يتدبَّر أو يخشع، وهذه علامة خطيرة أعظم من أي مرض جسميٍّ يَحِل بالإنسان؛ لأن القلب إذا خُتِم عليه، وصار بعيدًا عن خشية ربه، فإنه قد تُوُدِّع منه، إلا أن يشاء الله، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثلًا لهذه القلوب التي لا تخشع للقرآن، فقال كما ثبت في صحيح مسلم: ((حتى يعود القلب كالكوز مُجخِّيًا))؛ يعني: كالكوب المقلوب، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه، فالكوز المقلوب الذي قُلب على وجهه على فتحته، فإنه لا يمكن أن تُدخِلَ إليه أي شيء؛ لأنه مُغلق، وهكذا حال القلب الذي غشاه الران: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، والله سبحانه ذَكَّر بأحوال مَن قبلنا، فقال: ﴿ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ﴾ [الحديد: 16].
نهى الله سبحانه نهى عباده المؤمنين أن يتشبَّهوا بحال من كان من قبلنا، من أهل الكتاب الذين حُمِّلُوا الكتاب وحُمِّلوا أمانته، وأُمروا أن يؤمنوا به من اليهود والنصارى، لكن لَمَّا تطاول عليهم الأمد، وطالت بهم الحياة، فإنهم بدَّلوا كتاب الله، واشتروا به ثمنًا قليلاً، وحرَّفوا فيه، ونبذوه وراء ظهورهم، واتَّخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تَلين قلوبهم لهذا الكلام المنزَّل عليهم في التوراة والإنجيل قبل أن يُحَرَّفَا؛
ولذا قال الله عنهم: ﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16] في الأعمال، فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة؛ كما قال الله عنهم: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة: 13]، فالمؤمن يَحْذَر أن يكون هذا حاله، والله سبحانه إذا غضب، فلا حد لغضبه، والله يقول: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
فحريٌّ بالمؤمن أن يراجع نفسه، وأن يُكثر من دعاء الله: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تَدمع، ومن دعاء لا يُسمَع)، فهذه موعظة، وأي موعظة؟ موعظةٌ عظيمة وعتاب من ربٍّ كريم: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].