خطة ترك الذنوب و المعاصي
خطة ترك المعاصي
الله خلق الخلق وقال : " أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " فخلقهم جل وتعالى على حال ووصف وهيئة يعلمها جلّ وتعالى وركّب فيهم ما شاء من الأوصاف والأخلاق ، وجبلهم جل وتعالى على الضعف والنقص والخطأ ، وهو مع هذا " لطيف بهم " بما جبلهم عليه . " خبير بهم " وبما يعملون .
ومن هذا فقد كتب عليهم الخطأ والذنب والمعصية .
والمعاصي أمر حتم لابد منه وليس إنسان يُعصم منها - أيّا كان جنسه ووصفه وهيئته ومكانته - إلا الأنبياء ، بل لقد ثبت في حديث الشفاعة أن الناس لما يأتون آدم يستشفعون به يردهم بقوله : " ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، " فلما كان هذا الأمر حتميا، كان لابد من معرفة الأدب فيه كما أخبر به الله تعالى ورسوله.
لماذا هذة الخطة ؟!
حربا على اليأس والقنوط من رحمة الله.
وليتحول الذنب من "عليك" إلى "لك".
وتبطل مفعول الكيد الشيطاني الدائر حولك صباح مساء.
وحتى لا تكون ذنوبك سبب إهلاكك وطردك من رحمة الله.
ولتفزع إلى التوبة والاستغفار.
وتنجو بذلك من خطر الإصرار.
وأخيرا .. إبرازا لواقعية الإسلام ومراعاته للطبيعة البشرية في كل أحكامه وتكليفاته.
اعدم اليأس
أ - آية البشريات السبعة:
قال تعالى:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر:53)
هذه أرجى آية في كتاب الله لاشتمالها على قصرها على سبع بشارات جملة واحدة، فإنه سبحانه:
1. أضاف العباد إلى نفسه واختصهم بأحب المقامات إليه - مقام العبودية - مدحا لهم بقصد تشريفهم، ومزيد تبشيرهم، وطمأنتهم بأنهم لا زالوا مشمولين بانتسابهم إليه ورعايته لهم.
2. وذلك رغم ما كان منهم من إسراف في المعاصي واستكثار من الذنوب لا تضره سبحانه بل تضرهم وهي بمثابة جناية على "أَنْفُسِهِمْ".
3. ثم جاء النهي المطلق عن القنوط من رحمة الله لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، والنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين أولى.
4. ثم جاءت الحقيقة الحاسمة : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب }، بما لا يدع مجالا للشك، وجاءت الألف واللام لتعلن أن الله يغفر كلَّ ذنب كائنا ما كان.
5. ثم لم يكتف الله بما أخبر به من مغفرة كل ذنب بل أكَّد ذلك بتوكيد آخر في قوله : { جَمِيعاً } ثم علل سبحانه هذا الكلام قائلا:
6. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ: أي كثير المغفرة، والمغفرة هي التغطية والستر، بمعنى التغطية على الذنوب والعفو عنها، والغفور وصف لازم لا ينفك عنه سبحانه مهما عظم الذنب أو تكرَّر من العبد .. نعم .. مهما عظم الذنب أو تكرَّر من العبد!!
7. الرَّحِيمُ: الذي يعلم ضعف عباده وعجزهم، ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخلهم من نفس أمارة بالسوء وميول وشهوات وهوى وآفات، ومن خارجهم من شياطين تتربص بهم وتقعد لهم كل مرصد، وأعوان لإبليس من الإنس يستبسلون في بلوغ غايتهم وبذل طاقتهم من أجل إشاعة الفاحشة في المؤمنين!
ب _ تكبيرات الفرح المدوِّية!!
عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي ( فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟!
قال : فهل أسلمت؟
قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال : تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن.
قال: وغدراتي وفجراتي؟!
قال: نعم.
قال: الله أكبر، فما زال يُكبِّر حتى توارى .
لماذا وقعت؟
خرج عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة وهو ناحل الجسم فخطب كما كان يخطب، ثم قال:
" يا أيها الناس .. من أحسن منكم فليحمد الله، ومن أساء فليستغفر الله، ثم إن عاد فليستغفر الله، فإنه لابد لأقوام أن يعملوا أعمالا وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم ".
*بشر لا ملَك:
ثبت في الأحاديث الصحيحة قوله :
- " خُلِقَ المؤمن مفتّنا توَّابًا إذا ذُكِر ذَكَر ". - " كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون ".
* تعرَّف على الله:
o فمن أسمائه الغفار والعفو والتواب، فلو عصم الخلق فلمن يكون العفو والمغفرة والتوبة إن لم يكن ذنب. قال : " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم "، وقال يحيى بن معاذ : لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الخلق عليه.
o ومن صفاته أنه يحب الستر، فقد سترك في معصيتك وأسبل عليك ستره الجميل فلم يفضحك، ولا أسقطك من أعين الناس.
* نحو الأفضل: أن يتحرَّك الإنسان نحو الأفضل يستدرك ما فاته ويحصِّل ما قصَّر فيه، فيصل إلى حال أفضل مما كان عليه قبل الذنب، وربما صحَّت الأجساد بالعلل.
*النجاة من العُجب: لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب، وذنب تذلُّ به لديه أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه.
*مقياس القرب أو البعد: الذنب مقياس قرب أو بعدك عن الله، وهو بمثابة لفت نظر لك إن قصَّرت لتصلح ما أفسدت وتقترب منه إن كنت قد ابتعدت.
*الفرار: والذنب يدفعك للفرار إلى الله والارتماء على أعتابه، لأنه لا عصمة من ذنب إلا بعصمته، ولا توفيق لطاعة إلا بتوفيقه.
وتحسبوه هيِّنا أو استعظم ذنبك!
هل إضاعة قرش عندك كإضاعة ألف جنيه؟! هل الرسوب في امتحان مرحلي كالرسوب في امتحان نهاية العام؟!
لما نزل الموت بمحمد بن المنكدر رحمه الله بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكني أخاف أن أكون قد أذنبت ذنبًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم.أخي ..
الذنوب استجابة لداعي الشيطان بعد أن تخلى الله عنك وهُنت عليه فسلَّمك إلى عدوِّه مهما صغرت خطيئتك، ولو عز مقامك وارتفع جاهك عند ربِّك لعصمك، وحركات الظاهر بالعصيان تدُلُّ على سوء الباطن ووهن الإيمان، أضف إلى هذا تنبيه بلال بن سعد: " لا تنظر أيها التائب إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت ".
ورسول الله سبق وأن حذَّرك فقال:
" إياكم ومحقِّرات الذنوب! كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن مُحقِّرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها ؛ تهلكه " .
وقد نفَّذ الصحابة وصيته فقال أحدهم مخاطبا جيل التابعين: " إنكم لتعملون أعمالا هى أدق فى أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد النبي "2" من الموبقات ". فكيف بعهدنا؟!
ومن هنا كانوا يقولون:
" أربعة بعد الذنب أشد من الذنب: الإصرار والاستبشار والاستصغار والافتخار ".
وقال سهل التستري مبيِّنا أن كل ذنب لم تتبعه توبة له عقوبتين على أقل تقدير:
" ما من عبد أذنب ولم يتب إلا جرَّه ذلك الذنب إلى ذنب آخر وأنساه الذنب الأول ".
عملية ضرب!!
وتعظيم المعصية هو محصلة ضرب عوامل ثلاثة:
1. تعظيم الآمر:
وهذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر معرفتك بالله يكون تعظيمك له، وأعرف الناس بالله: أشدهم تعظيما وإجلالا له، وأشدهم تعظيما له أكثرهم معرفة به. وقد ذمَّ الله تعالى من لم يعظِّمه حق عظمته، ولا عرفه حقَّ معرفته، فقال تعالى:مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا نوح : 13. قال ابن عباس ومجاهد : لا ترجون لله عظمة.
2. تعظيم الأمر:
وتعظيم الأمر هو من تعظيم الآمِر، وأهل الطاعات لا ينظرون إلى الفعل ولكن ينظرون من الذي أمر به، لا ينشغلون بالهدية عن الذي أهدى الهدية.
لو أمرك رئيسك في العمل بأمر وأنت على وشك ترقية منتظرة أو تعديل مرتب، فكيف تنظر إلى أمره وكيف تكون استجابتك لشرطه؟ ألن يكون أمره أو حتى مجرَّد توصيته تعليمات تنفَّذ وأوامر صارمة؟! فكيف إذا كان هذا مديرا أكبر أو وزيرا أو رئيسا تطمع في نظرة منه ونفحة من عطائه؟! فكيف بمن كل هؤلاء في قبضته .. الله الكبير المتعال؟! لطفه إن نزل فسعادة الأبد في الدارين؟! وإن رُفِع فالشقاوة التي لا تنتهي؟!
3. اليقين بالجزاء:
أي عقوبات الذنوب المعجَّلة في الدنيا والمؤخَّرة في القبر أو يوم القيامة أو في النار، وكلما قرأ العبد هذه العقوبات بعيني قلبه وأبصرها ببصيرته كلما كان أكثر تعظيما لحرمات الله أبعد عنها، واسمع إلى حساسية أبي الدرداء في التعامل مع بعيره:
قال أبو الدرداء لبعير له عند الموت: يا أيها البعير!! لا تخاصمني إلى ربك فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك!!
4-ثمار هذا الأدب
التوبة الفورية المقبولة: فكلما استعظم العبد الذنب كلما كانت توبته منه أسرع، وقبولها أرجح. قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(النساء:17)
ومعنى مِنْ قَرِيبٍ كما قول ابن عباس : قبل أن ينزِلَ به سلطانُ الموتِ، لكنك تلمح فيها معنى آخر: أنه كلما كانت التوبة عقب الذنب مباشرة، وووقتها قريب من زمن المعصية كانت التوبة أكثر قبولا، وكلما تأخرت صار الذنب مضاعفة وقبول التوبة منه أبعد.
قال ابن القيِّم:
" المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخَّرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى؛ وهي توبته من تأخير التوبة ".
5-وغاب هذا الأدب!!
فسقط صاحبنا في:
* الإكثار من المباحات ثم المكروه وصولا إلى الحرام.
* السقوط في الدائرة الرمادية (دائرة الشبهات).
* عدم تحري الحلال والحرام والسؤال عنهما بعد أن نُزعت منه قرون الاستشعار الإيمانية.
* الإصرار على الصغيرة مع الاستصغار مما حوَّلها إلى كبيرة باقتدار.
* التهاون في الحقير من الذنوب أدَّى إلى التهاون في الكبير.
6-أذكر أم أنسى؟!
واختلفوا فى نسيان ما سلف من الذنوب، فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تجعل ذنبك بين عينيك، وقال آخرون: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وهما طريقان مختلفان لكن كلاهما يوصل إلى نفس الهدف، فكيف؟!
إن كان استصحاب الماضى يحرس الإنسان من الانزلاق ويقيه من العودة إلى ما يسخط الله فيجب استصحاب ذلك الماضى، لأنه حينها يشبه التجربة التى تفيد صاحبها دراية بالطريق وتدربا على السير فيه، وقدرة على تخطي عقباته وحواجزه، ونسيان الذنب هنا مقدِّمة السقوط وذريعة إلى الانحراف.
أما إذا كان الإنسان يكره استعادة صور سيئة انقضى عهدها وانمحى أثرها، ويشعر بأنه قد استأنف عهدا جديدا ووُلد ولادة ثانية، ويرى أن نقل الماضى للحاضر تعكير لصفوه وشلٌّ لعزيمته، فالواجب هنا أن ينسى ما كان، وأن يُقبل على الحاضر وحده يبني فيه ما ويعمره.
والخلاصة: النفوس مختلفة فى هذا المضمار، وكلٌّ أدرى بما يُصلحه: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا الإسراء:84)
فلا تقعد معهم أو الهجر
أخي
لا تجالس من لم يسلك طريقك ويأخذ نفس خطوتك، فهؤلاء يقومون بتحطيمك، ويضعون أمامك العراقيل التي توقف مشروع توبتك وتدمر خطتك الإيمانية، ويقعدونك عن النهوض بنفسك والوثبة بها نحو الجنة، هؤلاء هم النار في صورة الجنة والهلاك في ثوب نجاة، والعدو
تحسبه الصديق، أيأخذ أحدكم النار في حضنه ولا يحترق؟! ويمشي على الجمر دون أن تكتوي قدماه؟!
إن المعصية ليست وليدة المفاجأة والصدفة! بل لها مقدمات وأسباب إذا حصلت حصل نتاجها، وإن إلف العبد وتساهله في ارتياد مواطن المعاصي ورفقة السوء يورث عنده فتورا عن الورع والحزم والعزم، كما يورث في نفسه إقبالا على المعصية والخطيئة وبُعدا عن التوبة والأوبة، ومن هذا الباب ثبت النهي عن ارتياد مواطن العذاب والإهلاك.
لما مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأصحاب الحجر أثناء سيره إلى غزوة تبوك زجر ناقته فأسرع حتى خلَّفها هذه الديار وراء ظهره قائلا:
" لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم " .
ومثله إسراع النبي صلى الله عليه وسلم فى وادى محسر أثناء الحج وأمره بذلك لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك،وفي هذا إشارة إلى كل لبيب: كيف تتعامل مع أماكن العصيان وارتكاب الآثام بعدم الدخول فيها والإسراع عند المرور بها لئلا تتعرَّض لسخط الله النازل على أهلها، بل وعدم الدخول في ما يؤدي إليها؛ صديقا كان أو مجلة أو شريطا أو رقم هاتف أو فيلما أو مسلسلا أو ناديا أو مجلسا!! وبهذا تضمن ثبات توبتك وعدم انتكاستك.
أصلح باطنك أو راقب خواطرك.
من رحمة الله بنا أن جعل خواطر القلوب لا تدخل تحت الاختيار وبالتالي لا تدخل في دائرة الحساب، فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة، ورحمة الله تأبى ذلك.
لكن هذا لا ينافي أن الخواطر هي شرارة العمل الأولى، وأن استقامة الأقوال والأعمال تنشأ من حراسة الخواطر وحفظها وعدم إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قِبَل الخواطر لأنها بذور الشيطان في أرض القلب، فإذا بذرها الشيطان تعاهدها بسقيها مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر أعمالا، ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فإن قلت فما الطريق إلى حفظ الخواطر أهداك ابن القيِّم عشرة وسائل فقال:
أحدها .. العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك.
# الثاني .. حياؤك منه.
# الثالث .. إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في قلبك الذي خلقه لمعرفته ومحبته.
# الرابع .. خوفك منه أن تسقط من عين الله بتلك الخواطر.
# الخامس .. إيثارك له أن تُسكِن قلبك غير محبته.
# السادس .. خشيتك أن تتوالد تلك الخواطر ويستعر شررها فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله.
# السابع .. أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
# الثامن .. أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان بل هي ضدها، وما اجتمعا في قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه.
# التاسع .. أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلا.
# العاشر .. أن تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس، وأفسدت عليه رعيته وألقته في الأسر الطويل.
الخلاصة: القلب لوح والخواطر نقوش تنقش فيه، والقلب ملك يصدر أوامره إلى جوارحك، فبماذا يأمرها إذا كان النقش سوءا وخبيثا وعلى يد إبليس؟!
نوران هاديان!
وإصلاح الخواطر عن طريقين اثنين متوازيين:
الأولى : تفريغ القلب من الخواطر السيئة بعدم الالتفات إليها أو استدعائها، وذلك بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فور ورودها مع عدم التفرد والوحدة لمحاصرتها.
الثانية : فإذا تفرّغ القلب كان لابد من ملئه، فاملأه واشغله بالنافع المفيد عن طريق ملء الأوقات بكل عمل مفيد نافع، ومن ثم تكون المدخلات إلى العقل من البيئة الطاهرة هي الخواطر الحسنة والأفكار الطيبة، لأن خواطر القلب وحديث النفس ليست إلا وليدة البيئة التي يضع الإنسان فيها نفسه ويقضي أكثر وقته.
واصبر نفسك أو جالس الأخيار
تدبر قوله صلى الله عليه وسلم :
" المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه " .
فالمؤمن يرى من أخيه ما لا يراه أخوه من نفسه، ثم يخبر أخاه بما رأى كما يعلم شكل وجهه بالنظر في المرآة، ومعنى " يكفُّ عليه ضيعته " أي يمنع تلفه وخسرانه فهو مأخوذ من الضياع، ومعنى " ويحوطه من ورائه " أي يحفظه ويصونه ويذب عنه بقدر الطاقة ويعامله بالشفقة ويسدي إليه النصيحة، فهل رأيتم أجمل من الحديث السابق في شرح وظيفة الصحبة الصالحة؟!
وصحبة الأخيار وقاية من المعاصي لعدة أسباب:
السبب الأول: مجالسة الأخيار حماية من الخلوة، والخلوة تؤدي إلى تفرد الشيطان بالعبد الضعيف ليصرعه بالوقوع في أسر الخواطر ثم يكون غشيان المعاصي.
السبب الثاني: النصح النافع المانع، فإن الأخوة الصادقة تحتّم على المتآخيين أن ينصح كل منهما الآخر، لا أن يزين بعضهم لبعض تقصير الآخر.
السبب الثالث: التنافس معهم في الخير ومسابقتهم في سلوك طريق النجاة.
السبب الرابع: الندم والحسرة والتألم على المعصية إنما تجنيه من لزوم الصحبة الصالحة، فهو من ثمرات صحبتهم، وإنك حين تفارقهم فسرعان ما يخفت هذا الصوت حتى ينعدم ويختفي أثر النفس اللوامة!!
ومن هنا نعلم أن ترك صحبة الأخيار بحجة كثرة الذنوب والمعاصي من أعظم وأخطر حيل الشيطان ومداخله، وهب أنك فارقت الأخيار فهل سيزول ما تشكو منه من عصيان؟! أم أنك ستفقد عندها الدواء ويستفحل الداء!! إن الابتعاد عن صحبة الأخيار يساوي الاقتراب من الأشرار الذين يزينون المعصية ويقحمون العبد فيها!!
فرغت فانصب أو اذبح فراغك!
أخي ..
كيف تعطي الشيطان الخنجر الذي يطعنك به؟! ولماذا تكرِّر الجريمة وبنفس الكيفية؟! جريمة اغتيال الإيمان وقتل الصفاء، ألا تعلم أن كل وقت فراغ لا يسده العبد سيملأه الشيطان بخواطر سوء تقود ولابد إلى أفعال سوء، والوقاية خير من العلاج، وعدم إفساح الطريق للخواطر السيئة بأن لا يُسمح لها بالنشوء ابتداء أسهل بكثير من محاولات صرفها ومحوها من الذهن بعد استفحالها، لذا كان شغل الفراغ بالهوايات المفيدة والأنشطة الترفيهية المباحة والطاعات والقربات من أقوى الأسلاك الشائكة التي توضع في مواجهة الشيطان، لتمنع زحفه على القلب واستيلاءه عليه.
لذا كان من الوصايا الشفائية الغالية : نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وكانت صيحة كل تائب اكتوى بنار الذنب يوما: لو كان الفراغ رجلا لقتلته.
وهو سرٌّ من أسرار التوجيه الرباني : فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
فقد أمره ربه بأن لا يخلي وقتا من أوقاته أبدا، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى، فما هي هذه العبادة الأخرى؟!اسمع الأقوال:
قال ابن عباس رضي الله عنه: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل.
وقال الحسن وقتادة: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك.
وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق فاجتهد في عبادة الحق.إن إشغال النفس بعمل الصالحات ( صلاة .. صيام .. بر وإحسان .. صدقات .. زيارة مريض .. إجابة دعوة .. تحضير كلمة .. سماع شريط .. مباسطة الأهل والإخوان ...)هو أهم وقاية يتخذها العبد ضد جراثيم الذنوب وأوبئة المعاصي، وهو بمثابة سد الفراغات في جدار القلب فلا يتسلل منها الشيطان.
واسمع فرسان الميدان يا عاشق الجنان:قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " إني أكره الرَّجُل أن أراه يمشي سبهْللا : لا في أمر الدنيا ، ولا في أمر آخرة " ، وفى رواية أنه قال : " إني لأنظر إلى الرجل فيعجبني ، فإذا قيل : إنه لا عمل له سقط من عيني
استغفروا ربكم أو الاستغفار المتدفِّق
جرعة متعدِّدة المفعول تستخدم للوقاية والعلاج في آن واحد، فالاستغفار فضائله كثيرة وبركاته غزيرة لا تحصى ولا تعد، ومنها :الأول : وقاية من السقوط.
الثاني: يمحو الخطايا والذنوب.
الثالث: يصقل القلب ويجعله أصفى وأقرب، ألم تر إلى الأرض التي تُمسح كل يوم مرات عديدة ألا تبهرك بلمعانها وبريقها؟ وكذلك القلوب مع الاستغفار.
الرابع: أنه مما يُعجِب الرب من عبده، فعن علي بن ربيعة أنه شهد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد أُتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب سمى الله ودعا بدعاء الركوب ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين .. من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله!! من أي شيء ضحكت؟ قال: " إن ربك يعجب من عبده إذا قال اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري ".
وبعد كل هذا الفضائل ما الذي تبقى لك حتى تواظب على الاستغفار؟!
الصيغة الشاملة
وقد علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام هذه الصيغة الرائعة لتغطي كل الذنوب التي تخطر ببال العبد والتي لا تخطر بباله، فقال عليه الصلاة والسلام:
" اللهم اغفر لي خطيئتى وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدِّم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير " .
ولم يفارق الاستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُبضت روحه ليكون آخر ما يختم به حياته : الاستغفار!!
روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة هذا الكمال البشري الرائع فقالت : فنزع يده من يدي وقال : " اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى ". قالت : فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه .
وهي سنة الأنبياء من قبل، فنوح عليه السلام دعا: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً "
وإبراهيم عليه السلام نادى: " وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ".
وموسى عليه السلام : " قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ".
وعند هذا ... يقف المرء مذهولا : وأي خطيئة ارتكبها أنبياء الله حتى يستغفروا؟! ماذا جنت هذه النفوس الطاهرة؟! وأي خطيئة أسرّها وأعلنها وقدَّمها وأخَّرها هؤلاء الشوامخ؟!
اللحظة الفارقة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ صاحبَ الشمال ليرفعُ القلم سِتَّ ساعاتٍ عن العبدِ المسلمِ المخطئ أو المسيء، فإنْ ندمَ واستغفرَ اللهَ منها ألقاها، وإلا كُتِبَتْ واحدة " .وهو ما يجعل توقيت الاستغفار في غاية الأهمية، والمبادرة إليه على الفور سر فاعليته، فالتأخر عنه يجعل الذنب ثابتا ومحوه من الصحائف أصعب.
بقي أن نقول لأخواتنا أن حظهن من الاستغفار على قدر عددهن في النار، فهو في حقهن أوجب. قال صلى الله عليه وسلم مخاطبا حواء:
" يا معشر النساء! تصدَّقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير " .
شروط ثلاثة
ولكي يحدث الاستغفار أثره الفعَّال فلابد معه من الإكثار والاستمرار وعدم الإصرار، فأما الإكثار فلحديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم غاليين يغريان كل كسول بالنهوض وكل عاص بالإقدام:
" طوبى لمن وُجِد في صحيفته استغفارا كثيرا " .
والثاني :
" من أحب أن تسرَّه صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار " .
فأينا لا يحب أن تسره صحيفته؟!
وقد سنَّ الله لنا الاستغفار في مواضع كثيرة ليساعدنا على نفوسنا وينصرنا على غفلتنا:
_ بعد الخلاء: غفرانك.
_ وعند دخول المسجد: ربِّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك
_ وعند الخروج منه: رب اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك
_ وفي الصلاة في الركوع والسجود: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي
_ والجلوس بين السجدتين: رب اغفر لي .. رب اغفر لي .. رب اغفر لي
_ وبعد التشهد: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
_ وعقب الصلاة: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه
_ وفي السحر: لقوله تعالى: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
_ وعند ختام المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
إضافة إلى الاستغفار بعد كل ذنب وزلة: لقوله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يذنب ذنبا، فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله بذلك الذنب إلا غفر الله له " . حتى يكون آخر موعد لك مع الاستغفار عند غروب شمس يومك: نومك!! لتكون جلسة الحساب الختامي التي أوصاك بها مكحول الشامي :
" من أوى إلى فراشه ثم لم يتفكَّر فيما صنع في يومه، فإن عمل خيرا حمد الله، وإن أذنب استغفر ربه عز وجل، وإن لم يفعل كان مثل التاجر الذي ينفق ولا يحسب، حتى يفلس وهو لا يشعر ".
وكل هذا هدفه أن تلين الألسنة بالاستغفار وتعتاد عليه، وتجد نفسها تتقلب على مدار اليوم بين جرعات استغفار متكرِّرة، وبذلك يدفعنا ربنا إلى المغفرة والرحمة دفعا.
وأما الاستمرار فلما رُوي عن لقمان أنه قال لابنه: " يا بني!! عوِّد لسانك اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا "، وهي نفس وصية الحسن : أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلي موائدكم وفي طرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متي تنزل المغفرة ".
والاستغفار أوجب عند وقوع الذنب. قال بكر بن عبد الله المزني : " أنتم تكثرون من الذنوب فاستكثروا من الاستغفار، فإن الرجل إذا وجد في صحيفته بين كل سطرين استغفار سرَّه مكان ذلك ".
وأما عدم الإصرار فبالجمع بين استغفار اللسان والقلب لأن " الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما، فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت، ولأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جدا ، والثالث أبلغ منهما " .
لا تثريب عليكم أو لا تعيّر مذنبا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " .
إنها عقوبة شديدة تدفع العبد إلى عدم الترفع على أي عاصي ولو كان مرتكب كبيرة، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم :
" إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها و لا يثرِّب " .
ولا يُثرِّب أي لا يُعيِّر، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الدرس العملي للصحابة في ذلك، فلما جُلِد عنده رجل وهو عبد الله الملقَّب بالحمار، جاء من عدة أخبار من البخاري وغيره أن رجلا قال له: أخزاه الله وفي رواية: لعنه الله، فقال صلى الله عليه وسلم:
" لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم " .
ذلك أن المذنب إذا أقيم عليه الحد ارتفعت عنه التبعة وكان الحد له تطهيرا لذنبه، وذنوب أهل الإسلام عورة يجب سترها، وقد روى أبو الهيثم كاتب عقبة بن عامر قال: قلت لعقبة .. إن لنا جيرانا يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم. قال يفعل ذلك بهم شهرا، ثم جاء أبو الهيثم إلى عقبة فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشُّرط فقال له عقبة: ويحك!! لا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة من قبرها " .
ولهذا الحديث شاهد صحيح حيث رحل جابر بن عبد الله إلى مصر خصيصا ليحصل على حديث من الصحابي الجليل مسلمة بن مخلد الذي قال: بينا أنا على مصر، فأتى البواب فقال إن أعرابيا على الباب يستأذن، فقلت من أنت؟ قال: أنا جابر بن عبد الله. قال فأشرفت عليه فقلت أنزل إليك أو تصعد؟ قال: لا تنزل ولا أصعد، حديث بلغني أنك ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن جئت أسمعه. قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موءودة " . فضرب جابر بعيره راجعا بعد أن أخذ ما أراد!!
وعكس من يسترون: الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين يؤمنون، وهؤلاء توعَّدهم ربنا بقوله:
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(النور:19)
قال ابن رجب:
" والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقع منه أو اتُّهِم به وهو بريء منه ".
وهي آفة نفسية وعلة روحية وتشوه سلوكي أصاب الفطرة السوية وابتلي به الكثير اليوم، وقد برأ منه خير جيل: جيل الصحابة، لذا لما مرّ أبو الدرداء رضى الله عنه على رجل قد أصاب ذنبا وكانوا يسبّونه فقال : أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟! قالوا : بلى. قال : فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم ؛ قالوا : أفلا تبغضه؟ قال : إنما أبغض عمله ، فإذا تركه فهو أخي.
وقبله كان أبو بكر الصديق رضى الله عنه يقول:
" لو أخذتُ سارقا لأحببت أن يستره الله، ولو أخذتُ شاربا لأحببت أن يستره الله عز وجل ".
ولم لا وقد تعلموا ذلك من خير مُعلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمعوا وعوا:
استأجر هزال ماعز بن مالك وكانت له جارية يقال لها فاطمة قد أملكت، وكانت ترعى غنما لهم، وإن ماعزا وقع عليها فأخبر هزالا فخدعه، فقال: انطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبره عسى أن ينزل فيك قرآن، فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام فرُجِم ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: " ويلك يا هزال!! لو كنت سترته بثوبك كان خيرا لك " .
عقوبة التعيير!!
وعقوبة التعيير الدنيوية ابتلاء المعيِّر بما عيَّر به غيره!! ركب محمد بن سيرين الدَّيْن وحبس به قال: إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا عيَّرت رجلا منذ أربعين سنة فقلت له : يا مفلس، وما أصدق قول القائل:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا فيكشف الله سترا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكِروا ولا تعِب أحدا منهم بما فيكا
ومما سبق خرج الفضيل بن عياض إلينا بهذه النتيجة :
" المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر ".
ولعل كلمة الفضيل القاسية ووصفه للمعيِّر بالفجور مردُّها أن التعيير بالذنب برهان على إفراط صاحبه في ثقته بنفسه وتزكيته لها، والغرور بوّابة الهلاك وأمارة من أمارات استغناء العبد عن مولاه، وأين هذا عن أعرف الخلق بالله حين قال أحدهم : " وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ". وقال الآخر : " وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ".
لا تُجاهر أو الاستتار!
دلّت النصوص النبوية على أن المعصية التي يستتر صاحبها أخف جرما من التي يعلنها، فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" كل أمتي معافى إلاّ المجاهرين ، وإنَّ من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه " .
وقد ذمَّ الحديث من جاهر بالمعصية، فاستلزم ذلك مدح من استتر بها، وستر الله على عبده هو جزاء من جنس عمله حيث ستر العبد نفسه أولا فستره الله تبعا لذلك، فمن قصد إظهار المعصية والتبجح بها أغضب ربه فهتك ستره، ومن تستر منَّ الله عليه بستره في الدنيا، وإذا ستره الله في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، فاللهم لا تهتك لنا سترا في دنيا ولا آخرة.
وقد أحصى المناوي في المجاهرة بالذنب أربع جنايات فقال:
" وذلك خيانة منه على ستر الله الذي أسدله عليه، وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه أو أشهده، فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته فتغلظت به، فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه صارت جناية رابعة " .
ومن المجاهرة اليوم: تبرج النساء في الطرقات، وفحش اللسان واللعن عند الخصومات، والتباهي بارتياد أماكن العصيان وكسب السيئات.
وإلى هذا المشهد الأخروي الذي يبين قيمة الستر الرباني وعظمة الجود الإلهي :
قال : " إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس، ويقرِّره بذنوبه فيقول : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم .. أي رب حتى إذا قرَّره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه " .
والكنف: الجانب والساتر والعون، وهو هنا حفظه وستره وصونه عن الخزي والفضيحة، وهو مستعار من كنف الطائر وهو جناحه يصون به نفسه ويستر به بيضه فيحفظه، والكنف والدنو كلاهما مجازان لاستحالة حقيقتهما على الله تعالى.
كفتا الميزان
لكن إياك أن تشعر من ذلك أني أحث على معاصي السر، كيف والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن أناس يأتون بأمثال جبال تهامة حسنات فيجعلها الله هباء منثورا ذلك بأنهم خلوا بمحارم الله انتهكوها، لكنها دعوة إلى عدم خلع برقع الحياء مع الله، والحفاظ على حرمة المجتمع وعدم نشر الفساد إليه.
حملة إعمار أو حسنات تغلب السيئات!!
أنوار الطاعات تبدِّد ظلمات المعصية، والدليل قول الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، ولهذه الآية قصة، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله .. إني أصبت حدا فأقمه علي. قال ولم يسأله عنه. قال وحضرت الصلاة فصلى مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قضى النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة قام إليه رجل، فقال: يا رسول الله .. إني أصبت حدا فأقم فيَّ كتاب الله. قال عليه الصلاة والسلام : " أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك.
وهو ما تلمحه في صلاة التوبة وهي عبارة عن ركعتين عقب الذنب تمحوان أثره : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له " .
وعمل الحسنة بنية تكفير السيئة أنفع بكثير من فعل الحسنات المطلقة لعدة أسباب:
@ أن ذلك يبعث في النفس اليقظة والمراقبة لتتوب من المعصية فور وقوعها بلا تسويف أو تأجيل.
@ أن هذا أعظم ما يمحو الله به السيئات؛ لأن العبد بحسنته هذه جمع بين الفعل والنية: فعل الحسنة، ونية التوبة والندم على الوقوع في تلك السيئة، وقد قدَّم النبي فى الحديث " السيئة " لأن المقصود هنا محوها لا فعل "الحسنة " بحسب.
لكن السيئات ليست على درجة واحدة، فكل سيئة لها ما يقابلها ، وليس كل سيئة تمحوها أي حسنة، بل إذا عظمت السيئة وكبرت لم يمحها إلا الحسنات العظام؛ والصغير من الذنوب تمحوه الصغيرة من الحسنات.
وتبقى وصية ذهبية للإمام ابن تيمية تجعل المغفرة أرجى:
" وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات فإنه أبلغ في المحو ".
هدي التربية النبوية!!
وليس بالكلام وحده علَّمنا رسول الله بل رسَّخ معنى التوبة عن طريق العمل الصالح بتربيته للصحابة على هذا، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رجلا قال : يا رسول الله .. وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: هل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا ... الحديث.
وفي رواية مسلم أن الرجل قال: احترقت يا رسول الله، بل وفي رواية مرسلة في الموطأ أن الرجل جاء وهو في شدة الوجل والخوف: جاء أعرابي يضرب فخذه وينتف شعره، يقول : هلك الأبعد.
فانظر كيف دلَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على العمل النافع، وأرشده إلى العمل من بعد العمل، وكلما عجز عن حل دلَّه على غيره.
حيلة إبليسية مفضوحة!!
وبعض الشباب اليوم أصحاب معاصي وزلات، فإذا قلت له: اعمل صالحا تكفِّر به من خطاياك، قال: أخشى أن أكون منافقا!! فإذا قلنا: لماذا؟ قال: لأني آتي المسجد وأصلي وأنا صاحب ذنوب كثيرة.
فهل يكمن الحل في القعود عن العمل واعتزال الساحة وفي حبس النفس مع إبليس في قفص واحد؟!كلا والله .. فما هذه غير حيلة من حيل الشيطان يمنع بها العبد من الهداية، فخير علاج للذنوب القربات، وخير ما يداوي السيئات الحسنات .. ليس غير الحسنات.
الهجمة المرتدة أو ادعُ غيرك!!
يا شباب .. ترك الدعوة إلى الله بحجة المعاصي هي من حيل الشيطان على العباد، ولا شك أن القول الذي لايصدِّقه العمل أمر مذموم، كما قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) "
لكن ... لو لم يعظ إلا معصوم لم يعظ الناس أحد بعد رسول الله ^. قيل للحسن : إن فلانا لا يعظ ويقول : أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول!! ودَّ الشيطان أنه ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه عن منكر، وقال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر.
ومن هنا يتضح أن واجب المرء تجاه المنكر واجبان: تركه والنهي عنه، ونحو المعروف واجبان: فعله والأمر به، وهو ما قاله المفسِّر الحافظ ابن كثير: "فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر"، ويتضح أيضا أن ترك النهي عن المنكر بحجة الوقوع في الذنب منكر آخر ينبغي التصدي له ومحاربته!
رابعا: وأتممناها بعشر!!
وأخيرا .. قبل أن أغادرك ..
1. إياك أن تنسى أيا من هذه العشرة قتقع لك العثرة.
2. واستقل منها أو استكثر فإنما تضع من أوزارك أو تستكثر.
3. ونفِّذ في الحال لا تسوِّف بالفعال.
4. والدوام الدوام صفة كل هُمام.
5. وراجعها كلما سهوت، وخضت بحر الحياة وغزوت.
6. وادعُ إليها عاصيا يتخلَّص من وِزره لتنال أنت مثل أجره.
7. وابدأ بأقربائك نستدل على وفائك.
8. وأعطها لخطيب الجمعة الذي في جوارك ليبثَّ الأمل في ربوع جيرانك.
9. وحمِّلها على موقع شبابي أو بريد إلكتروني لتنشر النور البهي وتحفظ الشباب النديَّ.
10. وادع لكاتبها بالقبول والغفران، ولك وله بالثبات وإغاظة الشيطان.
وآخر وصية ..
إياك ثم إياك ..
سئل سهل التستري رحمه الله: ما علامة المنافق؟ فقال:
" يُبصِر الشيء عند مذكراته، فإذا قام من عنده كأنه لم يخطر على قلبه، قال الله تعالى : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [ البقرة : 20 ] ". فاللهم لا تجعلني أو أي واحد قرأ هذه الرسالة من هؤلاء.
بين قلم وممحاة
كان داخل المقلمة ممحاة صغيرة، وقلمُ رصاصٍ جميل .. دار بينهما هذا الحوار:
القلم: سأظل أكتب في صفحات الحياة مهما طال عمري، غير أني أخشى الخطأ.
الممحاة: لا عليك يا قلمي .. فأنا في أثرك أمحو خطأك.
القلم: ولن تيأسي مني؟!
الممحاة: أبدا.
قال القلم: وتمحين كل ما أخط؟!
الممحاة: أنا لا أمحو إلا الأخطاء.
القلم: مهما كبرت أو عظمت؟!
الممحاة: جرِّبني ولن تندم.
فقال القلممحزونا: لكنني أحيانا أسأل نفسي: هل من الأفضل لي مع كثرة الزلل التوقف عن العمل؟!
الممحاة تواسيه: إياك يا صاحبي .. فالاستمرار مع التقويم خير ألف مرة من الانقطاع مع اليأس.
القلم: لكن .. أما لخطئي من نهاية؟
الممحاة: نهايته عندي!!
وهنا قال القلم مسرورا: ما أعظمكِ وأنفع صحبتك! والله لن أتخلى عنك أو أنساك لحظة واحدة، فأنت أغلى كنوزي.