أركان الفطرة
وأما أركانها فستة - هي مصطلحاتها المفتاحية - وهي:
1- الإخلاصُ مجاهدةً
2- الآخِرةُ غايةً
3- القرآنُ مدرسةً
4- الربانيةُ برنامجاً
5- العلمُ طريقةً
6- الحكمةُ صبغةً
فأما الركن الأول، وهو: الإخلاصُ مجاهدةً:
فهو فَصُّ الفطرية، ومُحُهَّا الذي تنطوي عليه، بما هي محاولة لإعادة بناء النفس على ما بنيت عليه أول ما خلقت، وقد كان أول بنائها على الفطرة, وقد سبق أن أصل الفطرة الإنسانية إنما هو إخلاص التوحيد لله رب العالمين. فكان مدارُ الفطرية - دعوةً وتربيةً - إنما هو على إفراد الله جلَّ جلالُه بالعبودية، وحده دون سواه، ونبذ سائر ضروب الشرك والشركاء، ظاهرا وباطنا. فسائر الأعمال والعبادات في الإسلام إنما هي خادمة لهذا الركن الركين، وفروع لهذا الأصل العظيم. هو غايتها، وهو مقياس صحتها وفسادها. ولذلك وجب أن يُجعل الإخلاصُ – كما جعله الله في كتابه، وبَيَّنَهُ الرسولُ في منهاجه - مدارَ الدين والدعوة جميعا، وإلا صار العمل الإسلامي كله إلى انحراف وضلال!
إلا أن إخلاص التوحيد ليس مجرد معلومات تُلَقَّن، ولا منظومات تُستظهر، بل هو حقيقةٌ إيمانيةٌ عظمى، وخُلُقٌ قرآني عميق، لا يُنال إلا بمجاهدة ومكابدة! ولذلك قيدنا ركنيته ببيان طريقة التحقق به؛ بقولنا: "الإخلاصُ مجاهدةً". إذ مقتضاه راجع إلى معنى السير إلى الله على طريق الفناء في طاعته؛ لتحقيق خالص العبدية له وحده جل علاه، حتى لا يبقى منك شيء لسواه! فتجعل كل رغائبك وكل أهوائك وكل ذراتك، الظاهرة والباطنة، فانية في قصده هو جل جلاله، حتى يتحقق لك دوام الشهود لعبديتك الكاملة له، فلا تكون في شيء من عبادتك وعاداتك إلا بالله وله!
(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايْ وَمَمَاتِيَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
(الأنعام: 162-163).
هذا هو المقصد الأساس من المدرسة القرآنية، والغاية الكبرى لبرنامج الربانية، والجامع المانع لمفهوم الفطرية. فمن أراد الإخلاص حقيقةً، وجب أن يتحقق بطريقة التخلق بمقامه، ومعراج الرقي إلى منـزله، وإلا كان ممن يتمنى على الله الأماني! وليس لذلك دون مكابدة القرآن ومجاهدة النفس به من سبيل! وإنما الموفق من وفقه الله.
وأما الركن الثاني، وهو:الآخِرةُ غَايةً:
فهو ميزان الداعية المؤمن لتقويم صفاء دينه، وبوصلته لضبط مسار دعوته. وما ارتبط شيء في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ارتبط ركن الإيمان بالله بركن الإيمان باليوم الآخر! على نحو ما في
قوله تعالى: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)
(البقرة: 232).
وهو في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصى! إذ الإيمان بالآخرة هو حادي العبد إلى تحقيق منـزلة الإخلاص في إيمانه بالله جل علاه. ولذلك كان هذا البيان النبوي العجيب في رسم طريق الآخرة للمؤمنين،
قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وجمعَ له شملَه، و أتته الدنيا وهي رَاغِمَةٌ! ومَنْ كَانَتِ الدُّنيا هَمَّهُ جعلَ اللهُ فَقْرَهُ بين عينيه! وفَرَّقَ عليهِ شَمْلَهُ! ولم يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ!)
([1])
فالحضور الأخروي الدائم في وجدان المؤمن يجعله آمنا من فتن الشهوات، ومن بريق الإغراءات، التي تفسد الدعوات وتدمر الحركات! وعدمُ العض على هذا المعنى العظيم في الإسلام بالنواجذ مُلْقٍ بالمرء - أنى كان موقعه الحركي في العلم والعمل - إلى متاهات الضلال! ذلك أن قضية الحياة الآخرة هي جوهر العقيدة الإسلامية، ومآل العالم الوجودي كله!
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ!)
(العنكبوت:64).
وأحسب أن هذه الحقيقة العظمى لَمِمَّا ينبغي لكثير من الحركات الإسلامية، أن تراجع تصوراتها، وبرامجها، وأولوياتها، على ميزانها! وذلك لِمَا شاهدناه لدى بعضها من انحرافٍ عن وعد جنة الآخرة إلى وعد جنة الأرض! في سياق التنافس المحموم مع الحركات اليسارية والأحزاب العلمانية! وإنما المؤمن الصادق بهذا الدين – بله الداعية إليه – رَجُلٌ أخروي بالقصد الأول!
(أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ؟ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ!)
(التوبة: 38).
وتتميز الفطرية بأنها تجعل لكل حقيقة من حقائق الدين ما جعله الله لها من الحجم والقَدْرِ، في الصورة الكلية للإسلام ديناً ودعوةً. لأن ذلك من خصائص الفطرة، ومن صفاتها الذاتية، بما هي الهيأة الأولى للدين، قبل أن يصيبها التغيير والتحريف. ومن هنا كان الركن الثاني من أركان الدعوة الفطرية: "الآخِرةُ غايةً"، وقَيَّدْنَا بالغاية؛ حتى لا يبقى هذا المعنى حبيس التصورات النظرية في الجدل الكلامي، بل ليصبح هدفا محددا واضحا، لكل عمل إسلامي يُرْجَى به نيلُ رضى الله، والفوز بالنعيم المقيم في جنات الخلد، والنجاة من عذاب الجحيم. ألاَ جعلني الله وإياك يا صاح من الفائزين بنعمته، الداخلين في رحمته!
(يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ!)
(الشعراء:88-89).
وأما الركن الثالث، وهو: القرآنُ مدرسةً:
فهو الصبغة العامة للفطرية، بما هي قائمة أساسا على تلقي رسالات القرآن، سواء عبر برامج الربانية أو عبر مجالس القرآن. وقد تبين ألا إمكان لإصلاح الفطرة الإنسانية إلا بالقرآن، لأنه إنما أُنْزِلَ أساسا لهذا القصد الرباني العظيم. فالقرآن – بما هو كلام خالق الإنسان، العليم بأسرار تكوينه - هو كتاب إصلاح الفطرة الإنسانية وصيانتها. ومن هنا كانت الفطرية مدرسة قرآنية بالدرجة الأولى ([2]).
وأما الركن الرابع، وهو:الربانيةُ برنامجاً:
فهو أحد مسالكها التربوية الرئيسة، الهادفة إلى تخريج طبقة الدعاة المربين، وهم طائفة الربانيين الحاملين لرسالة القرآن، المشتغلين بدعوته في الناس أجمعين، بما يقتضيه مفهوم الربانية من مقام إيماني عظيم، وفقه دعوي متين. ولذلك جعلنا لها برنامجا قرآنيا خاصا، استقريناه من مجموع الآيات الدالة على أخلاق الربانيين، وخصوص منازلهم الإيمانية، وما تقتضيه من العلم والحكمة، معزَّزاً بالبيانات النبوية، الرامية إلى تخريج أئمة الهدى في الدين.
وأما الركن الخامس، وهو: العلمُ طريقةً:
فهو راجع إلى كون العلوم الشرعية أساسا، ومناهجها الاستدلالية والاجتهادية، وقواعدها النقدية والتأصيلية، هي المسلك الأساس لبناء علم الناس بالله وبدينه، عقيدةً، وشريعةً، وتربيةً وسلوكاً. فلا مكان في الفطرية للخرافية، ولا للأهوائية الشخصانية. ومن هنا وجب أن تحمل رسالات الفطرية، لكل المسلمين، الحد الأدنى من العلم الشرعي، الذي لا يُعبد الله إلا به، عقيدةً وشريعةً. وذلك هو المسمى عند العلماء بـ"المعلوم من الدين بالضرورة"، أو "ما لا يَسَعُ المسلمَ جهلُه". ثم تحرض - في الوقت نفسه – نبغاء الشباب على تحقيق واجب الوقت، من التفرغ لطلب العلم الشرعي، بشروطه التخصصية؛ وذلك لمد الأمة بأجيال العلماء الربانيين، على ما بيناه في كتابنا "مفهوم العَالِمِيَّةِ". فذلك هدف استراتيجي، وجب أن يكون عمودا فقريا، في كل مشروع دعوي، انتصب لتجديد الدين بصدق وبجدية. وما التوفيق إلا بالله.
وأما الركن السادس، وهو:الحكمةُ صبغةً:
فهو صمام الأمان لسير العمل الدعوي. وقد كان غياب الحكمة سببا رئيسا في هلاك كثير من الدعوات واندثارها، أو انحرافها. والحكمة في العمل الدعوي هي: "اتخاذ الإجراء المناسب، في الوقت المناسب، بالقَدْرِ المناسب". فهي إذن راجعة - في النهاية - إلى كلمة واحدة جامعة هي: حُسْنُ التَّقْدِيرِ والتدبير.
ويُتَحَقَّقُ منها بأمرين، أحدهما كسبي والآخر وهبي. فأما الكسبي فهو: الفقه في الدين بمعناه المنهجي، وخاصة منه ما يسمى عند الأصوليين بفقه "تحقيق المناط" عَامِّهِ وخاصِّه([3])، ويدخل فيه فقه الأولويات وفقه الموازنات، وما يندرج فيهما من قواعد التدرج والتلطف والتترس.
وأما الوهبي فهو: راجع إلى التخلق بمقامات التقوى والورع، إذ هي سبب وضع المؤمن في منـزلة التعرض لنفحات الله، التي تفتح البصائر وتنير السرائر.
وهو معنى الفرقان في قوله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
(الأنفال: 29).
وكذا قوله تعالى: (وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
(البقرة: 282).
وفي هذا السياق أسند الله تعالى فعل إتيان الحكمة لنفسه تعالى؛ لنفي مطلقِ كسبيتها عن الإنسان،
وهو قوله تعالى: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)
(البقرة: 269).
وقد كان شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله - بما فتح الله له من العلم والحكمة - من أمهر العلماء الربانيين فقهاً لهذه الحقائق وتعبيرا عنها، بشقيها الكسبي والوهبي. وقد وردت عنه في ذلك إشراقات عجيبة، في نصوص شتى من كتابه الرائد الموافقات. ولنا أن نختار منها هذا النص الفريد، قال - رحمه الله - في وصف العالم الرباني الحكيم أنه: (لاَ يَذْكُرَ للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي! بل يربي بصغار العلم قبل كباره. وقد فرض العلماء مسائل، مما لا يجوز الفتيا بها، وإن كانت صحيحة فى نظر الفقه! (...) وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت فى ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله! فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة؛ فاعرضها فى ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية!) ([4]).
وهذه منـزلة من العلم الرباني، وجب على الداخل في مدرسة الفطرية أن يحرص على التحقق بأسبابها، والتخلق بشروطها؛ عسى أن يكون من أهلها، ولو على مستوى المنهج في المجال الدعوي، إن لم يكن من أهل الاختصاص الشرعي والاجتهاد الفقهي. ومدرسة القرآن بما هي مَشْرَبٌ رباني صاف، كفيلة بتحقيق ذلك للصادقين من طلابها، بما يجعل الحكمة – بإذن الله - صفة جوهرية في التصرفات الدعوية لأبنائها؛ ولذلك جعلنا الركن الأخير من أركانها: (الحكمة صبغةً). كذلك، والله الموفق للخير والمعين عليه.
تلك إذن هي أركان الفطرية الستة. ونحسب أن الدخول في برامجها القرآنية، من خلال مسالكها التربوية، كفيل بالتحقق التلقائي بها، ركنا ركنا. وإنما ذكرناها ههنا معزولة من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ حتى تكون تلك عونا على حسن تطبيق هذه. والله المستعان.
المراجع
- أخرجه الترمذي عن أنس مرفوعا. وصححه الألباني، حديث رقم : 6510 في صحيح الجامع.
- قد فصلنا ذلك بما يكفي، فيما سبق من بيان، وكذا في مواطن تقديم برنامج الربانية ومفهوم مجالس القرآن، فلا داعي للإطالة.
- انظر تفصيل ذلك – إذا تشاء - في كتاب الموافقات للشاطبي: 4/97.
- الموافقات: 4/190-191