البلاغ السابع في المفاتيح الثلاثة
لا فائدة لحكم ليس يتحقق له مناط مطلقاً في حياة الإنسان، وإنما جاء الدين ليكون حركة إنسانية في الزمان والمكان، ولا نصوصاً تتلى فقط، ولا قصصاً تحكى فحسب، وإنما الأمانة التي حملها الإنسان عَمَلٌ: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] والإسلام لما بيَّن بلاغاته للناس بين لهم – فيما بين لهم – وسائل الوصول إليها، وطرائق اكتساب صفاتها، فجعل لكل أصل عملاً، ولكل عمل باباً، ولكل باب مفتاحاً.
تبصرة:
ومدار باب الخروج إلى العمل على تلاثة مفاتيح، هي أصول لما سواها، هي أصول لما سواها، نَسُكُّها في العبارات التالية:
اغتنام المجالسات
والتزام الرباطات
وتبليغ الرسالات.
تبصرة :
فأما المفتاح الأول فهو اغتنام المجالسات: وهو أن تحرص على (مجالس القرآن) وهي خير أنواع (مجالس الذكر)، التي تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها محبوبة عند الله، مذكورة في ملئه الأعلى، تشهدها الملائكة، وتنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، ويذكرها الله في من عنده، وليس شيء أفيد منها في تربية الإنسان المسلم على الصلاح والفلاح، وهي من أهم الوسائل التربوية التي لا غبش فيها ولا غبار، من حيث استنادها إلى الأدلة المتواترة بالمعنى، عبر الأحاديث الوفيرة المستفيضة، نذكر منها الحديث المشهور، الذي رواه أبو هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي فيه: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلن عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه". وكذلك الحديث المتفق عليه، الذي رواه أبو هريرة أيضاً، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض، "فضلا عن كتاب الناس". يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجاتكم! فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك. فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها. فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة. فيقول: فاشهدكم أني قد غفرت لهم! فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة! فيقول هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم! والأحاديث في هذا المعنى كثير.
تبصرة: وتوسلاً إلى تحقيق مناط ذلك نسمى "مجالس القرآن" مساهمة في تصحيح ما انحرفت إليه بعض الحركات الإسلامية، حيث تحولت مجالسهم التربوية، إلى اعتماد كتاب فلان، أو علان، من التآليف الفكرية البشرية؛ منهاجاً للذين والتدين. وهذا خطر كبير قد بيناه من قبل، إذ بسببه يصيب الدعوات ما يصيبها من أنانية وذاتية، وشركية نفسية في كثير من الأحيان. إن التربية الدعوية لا يمكن أن تستقيم على التوحيد الاعتقادي والعملي والوجداني؛ إلا بالتعلق المصدري بكتاب الله وسنة رسول الله في المجال التربوي، بالنسبة للمربي والمتربي سواء. فتدبر.. ثم أبصر!
وقد تبين مما سبق أن عملنا يقوم على منهج واضح وبسيط: الاعتصام بالقرآن آية آية؛ مصدراً أول للتدين والدعوة إليه، والاعتصام بالشمائل المحمدية نوذجاً أعلى للتطبيق. فهو قسمان، وكلاهما يجب أن تترجمه (مجالس القرآن)، وبيان ذلك كما يلي:
تبصرة: القسم الأول: أُسْلُكْ نفسَكَ وصاحبك في مجلس من (مجالس القرآن)، وسِرْ من خلالها إلى الله. لا تهتم كثيراً – في هذا الشأن خاصة – بالتنظيمات والجماعات، فما نحن فيه أعم – من وجه – بكثير مما هي فيه، وهما أمران لا يتعارضان. ولكن لا تنس (مجالس القرآن)، فذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين صحابته صفات الصلاح، ومقومات الإصلاح. تعلن من القرآن مباشرة دعوة الخير: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104].
تتبع منهج القرآن كما عرضه القرآن: التلاوة والتعلم والتعليم، والدراسة والتدارس، ثم التدبر؛ عسى أن تكون من المبصرين. فاجعل مجلسك القرآني على هذه الفقرات الأربع،
المؤصلة في كتاب الله وسنة رسول الله. وبيانها كما يلي:
1- فأما التلاوة: فبركة وزكاة في نفسها، فقد ثبت الأجر – كما بيناه قبل – على كل حرف تتلوه من القرآن، فلا تنس هذا، والله عز وجل أمر بالتلاوة للقرآن في غير ما آية. قال سبحانه: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}. [الكهف: 27] وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } [فاطر: 29]، وقال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113 ]، وقال تعالى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4]، ثم قال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. وفي الحديث الصحيح: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران". فاقرأ كما استطعت وتعلم؛ كي تتزكى، فقد رأيت أن التلاوة بدء فعله صلى الله عليه وسلم من التزكية والتعليم، كما مر في قوله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، فالتلاوة نور في نفسها. إنها – لو أبصرتها حقّاً – صلة مباشرة برب العالمين؛ ذكراَ ومناجاة، إن العبد التالي لكتاب الله متكلم بكلام الله، وهذا وحده معنى عظيم في نفسه، فتدبر! وهو يمهد القلب ويهيئه للخطوات التربوية التالية.
2 - وأما التعلم والتعليم: فهو لأحكامه كما ذكرنا، وهو يكون بتحصيل العلم للنفس وتلقينه للغير؛ وذلك لقول الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]. فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُونَ) و (تُعَلِمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها أولى: التعلم والتعليم، وأقل ذلك يا صاح أن تكون أحَدَهما: معلماً أو متعلماً. بيد أن العلم هاهنا إنما هو ما أفاد العمل. على قاعدة علماء مقاصد الشريعة: أن (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل)، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا معلونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً". وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً؛ ولكن بعثني معلماً ميسراً". أي: معلماً أعمال الخير والصلاح للعالمين.
3- وأما الدراسة والتدارس: فهو تتبع وجوه المعاني والدلالات للمقاصد والغايات، من كل آية وسورة، ويجمع الثانية والثالثة – أعني: (التعلم والتدارس) – ما ذكرنا من قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]. ويجمع المراحل الثلاث كلها: (التلاوة والتعلم والتدراس) ما جاء عَنْ أنس بنِ مالك قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رِجالاً يعلمونا القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم القراء. فيهِم خالي حرام. يقرؤون القرآن، ويتدارسون بِالليلِ يتعلمونَ) .. الحديث.
فالتدارس هو أساس التعلم كما في هذا الحديث، إذ لا علم إلا به، فأنت تبحث عن وجوه المعاني وتتدارسها، لتتعلم أحكامها ومقاصدها، وذكر التدارس أيضاَ في الحديث السالف الذكر، من قوله عليه الصلاة والسلام : "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
4- وأما التدبر: فهو – كما سبق بيانه – أنك إذ تقرأ الآيات وتدرس، وتتعلم؛ تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتبصر حقائقها الإيمانية إبصاراً؛ فتكتسب بذلك من الصفات، ما يعمر قلبك بالإيمان ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية ونحو ذلك من المعاني، مما فصلناه قبل في محله، فلا حاجة لتكراره. ذلك كله هو أساس التزكية، ومقاس التصفية، ومنهاج التربية، وسلم العروج إلى رضى الرحمن، فاقرأ القرآن، وتدارس، وتعلم، وتدبر ثم أبصر! حتى يأتيك اليقين.
فاصبر على هذا المنهج؛ فإن كل آية تسلمك إلى الأخرى، وتفتح لك باب أسرارها وأنوارها، فتتبع مسالك النور حتى تصل، إن شاء الله.
ذلك هو الاعتصام بكتاب الله، وأما الاعتصام بالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى للتطبيق؛ فهو:
تبصرة: القسم الثاني: وهو أن تتبع معالم سَيْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذلك، وهي مبثوثة في كل كتب السنة وعلومها، إلا أن أجمع علوم السنة الموضوعة لبيان هذا المنهج؛ هو (علم الشمائل المحمدية): وهو علم يبحث في صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخِلْقية والخُلُقِية، وكيفية سيرته مع ربه، وسيرته في نفسه، وفي أهله، وفي أصحابه والناس أجمعين. وإن ذلك لهو القرآن كله مطبقاً، والإسلام كله حيّاً متحركاً. فادرس من الكتب في ذلك ما شئت ولا حرج، أو اجمع نصوصه من حيثما شئت ولا حرج، وإنما الشرط أن تتحرى الصحة في الخير، ويكمل بذلك ما أردناه من معنى: (مجالس القرآن) ، التي كانت هي مجالس الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك هو المفتاح الأول.