من رحمته الحساب بالعدل
من رحمة الله تعالى بعباده أنه يُحاسبهم يوم القيامة بالعدل، فلا يقع ظلم لأحد؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 29]؛ وقال سبحانه: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ﴾ [الأنبياء: 47]. وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ الْعِبَادُ - عُرَاةً غُرْلاً[1] بُهْمًا[2]».
قال: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ؛ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ. وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ؛ وَلأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ». قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ» صحيح - رواه أحمد في المسند"، والبخاري مختصراً.
فالله تبارك وتعالى هو الديَّان المُحاسب والمُجازي للعباد، وهو الحاكم بينهم يوم المعاد، فَمَنْ وجَدَ خيراً فليحمد الله، ومَنْ وجَدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسَه، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
عباد الله.. في يوم القيامة تكون ثروةُ الإنسان، وأُسُّ مالِه حسناتِه، فإذا كانت عليه مظالِمُ للعباد؛ فإنهم يأخذون من حسناته، بِقَدْر ما ظَلَمَهم، فإنْ لم يكن له حسناتٌ أو فَنِيَتْ حسناتُه، فيُؤخذ من سيِّئاتهم، ويُطرح فوق ظهره[3].
ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ؛ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ[4] أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ».
وهذا الذي يأخذ الناسُ حسناتِه، ثم يقذِفون فوق ظهره بسيِّئاتهم، هو المُفلس؛ كما سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ - قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ - أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» رواه مسلم.
والمَدِين الذي مات وللناس في ذمته أموال؛ يأخذُ أصحابُ الأموالِ من حسناته بمقدار ما لهم عنده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ؛ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ» صحيح - رواه ابن ماجه. فالعُملة المقبولة يوم القيامة هي الحسنات دون سواها.
وإذا كانت بين العباد مظالِمُ مُتبادَلة؛ اقْتُصَّ لبعضهم من بعض، فإنْ تساوى ظُلمُ كلِّ واحدٍ منهما للآخَر؛ كان كَفافاً لا له ولا عليه، وإنْ بَقِيَ لبعضهم حقوقٌ عند الآخَرين؛ أخذها. عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها؛ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكَيْنِ يُكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَبُوكَ، وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ كَفَافًا لاَ لَكَ وَلاَ عَلَيْكَ. وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ فَضْلاً لَكَ. وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ؛ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ». فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلاَءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلَّهُمْ» صحيح - رواه الترمذي. فالحديث يُشير إلى ثلاث حالات للرجل مع هؤلاء المماليك: الحال الأُولى: إنْ كان العقابُ بقدر الخطأ؛ كان كفافاً. الحال الثانية: إنْ كان العقابُ أقلَّ من الخطأ؛ كان زيادةً للرجل يأخذ منهم الحسنات. الحال الثالثة: إنْ كان العقابُ أكثرَ من الخطأ؛ فيأخذ المماليكُ من الرجل الزيادة بالحسنات.
ولو نجا أحدٌ من هذه المظالِمِ المُتبادَلة لنجا الحيوان؛ فيُقْتَصُّ لبعضه من بعض، فإذا انْتَطَحَت شاتان، إحداهما جَلحاءُ لا قرون لها، والأُخرى ذاتُ قرونٍ؛ فإنه يُقْتَصُّ لتلك من هذه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» رواه مسلم.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ! هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟» قَالَ: لاَ. قَالَ: «لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا» صحيح - رواه أحمد في "المسند".
- - - - - - - - - - - - - -
[1] غُرْلاً: جمع أغرل، وهو مَنْ بقيتْ غرلتُه، وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذَّكر. أي: غير مختونين.
[2] بُهْمَا: البُهْم جمع بهيم، وهو في الأصل الذي لا يُخالط لونه لون سواه. يعني ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا؛ كالعمى والعور والعرج وغير ذلك. وقيل: ليس معهم شيء.
[3] انظر: القيامة الكبرى، د. عمر الأشقر (ص 237).
[4] إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ: بمعنى إنْ كان لديه رصيدٌ من الحسنات؛ يُأخذ من رصيد حسناته بقدر مظلمته.