سياق الذكر
حينما نقف مع كتاب الله تدارسًا وتأملًا وتفكرًا، نتلمس عظمة النظم وجلال المعاني لهذا الكلام الإلهي العظيم المعجز المبهر بحق.
وفي هذا المقال الموجز نقف مع آية عظيمة - وكل الكتاب المبين عظيم - جليلة القدر، عميقة المعنى؛ وهي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [البقرة: 124].
فمعلوم أن نسق الجملة الفعلية في الكلام العربي يتألف ترتيبًا من: الفعل، والفاعل، والمفعول به إن كان الفعل متعديًا، وقد نزل هذا الكتاب العظيم على نحو أعجز فصحاء العرب وبلغاءهم آنذاك إلى يومنا هذا، وإلى أن يُرفَع في آخر الزمان، فسبحان من هذا كلامه سبحانه وتعالى.
فنلحظ في الآية الكريمة تقديم المفعول به بعد الفعل؛ وهو قوله سبحانه: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ﴾، فالآمر جل جلاله بموقع الفاعل (ربه) وهو مؤخر في سياق الجملة؛ فغدا تركيب الجملة من: فعل ومفعول به والفاعل وهو الآمر عز وجل؛ ليدلنا ذلك على معنىً عظيم عميق جدًّا؛ وهو أن الرب جل شأنه إذا أحب عبدًا واصطفاه واجتباه، قدَّمه حتى في سياق الذكر، فما المعنى المستفاد من ذلك؟ والآية المقابلة لهذه الآية الكريمة تشير إلى أعلى مراتب التعظيم والعبودية؛ وهو الانقياد والتسليم المطلقين من إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام لله رب العالمين: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]؛ فانعدام الفاصلة القرآنية بين الأمر الإلهي الكريم والاستجابة الإبراهيمية مشعِرٌ بذلكم المعنى الوابل.
ومن أمثلة ذلك التسليم والانقياد حبًّا وخضوعًا وتعظيمًا ورغبةً ورهبةً وإنابة:
♦ التفاني في دعوة أبيه وقومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، مستنفدًا جميع السبل والوسائل في سبيل تلكم الغاية العظيمة؛ قال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 69 - 73].
♦ هجر الأهل والوطن؛ اهتمامًا بدعوة التوحيد وانتصارًا لها؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99].
♦ اليقين بنصر الله والتوكل عليه؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقيَ في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173])) [رواه البخاري].
♦ اليقين بقدرة الله وتدبيره، وأنه الخالق الرازق الشافي المحيي المميت؛ قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴾ [الشعراء: 78 - 81].
♦ إيثار الخالق على الخلق مهما كانوا، ولو كانت ذريةً أتت بعد سنوات من العقم والافتقار، فلما امتُحن في ابنه؛ تارةً بإبعاده وأمه إلى وادٍ غير ذي زرع، وأخرى بذبحه - كان الصديق الصابر الممتثل أمر ربه؛ قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وقال تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 101، 102].
♦ إقامة أعظم معالم التوحيد ببناء بيت الله العتيق امتثالًا للأمر الرباني الكريم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].
♦ النداء والإعلام بأعظم دعوة توحيدية وهي الأذان في الناس لحج بيت الله العتيق؛ قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].
- محاجَّةُ الكافرين والمعاندين لدعوة التوحيد؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
♦ لزوم دعوة التوحيد وسؤال الله تعالى الثبات عليها؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35].
♦ الوفاء بعهد الله؛ قال تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37].
♦ الاهتمام بشعائر التوحيد العظمى؛ ومنها: الصلاة، والاستعانة بالله تعالى لإقامتها على الوجه الذي يرضي الرب عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40].
♦ البراءة من الشرك والمعبودات الباطلة؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4].
♦ التصديق المطلق بكل ما جاء من عند الله عزوجل؛ فهو بذلك الصديق والنبي؛ قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41].
♦ الوصية العظمى الخالدة بلزوم دعوة التوحيد والاستمساك بها؛ قال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132].
♦ التماس طمأنينة القلب وسلوانه بشهود آثار الأسماء الحسنى والصفات العلى، والتعرف على الرب الخالق العظيم من خلالها؛ ومن ذلك مظاهر القدرة الإلهية في إحياء الموتى؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].
♦ إيثار الحق سبحانه وتعالى على الخلق مهما اشتدت بينهم علائق الدم، ولا أعظم من الأبوين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114].
♦ النصح للموحدين [من سار على نهجِ وهَدِي النبي محمد صلى الله عليه وسلـم، آخِذًا بالإمامَين؛ كتاب الله تعالى، وتبيانه السنة الشريفة المطهرة]؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليـه وسلم: ((لقيتُ إبراهيم ليلة أُسريَ بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غِراسَها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) [حسنه الألباني].
كل تلك المعاني الجليلة مما علمنا مما قصه الوحي علينا من خبر هذا النبي الصالح، ومما لم نعلم مما طوي عنا، كل ذلك كان سببًا في تقديم هذا النبي الكريم إمامًا للحنفاء وقدوةً للموحدين، حتى في سياق الذكر، وفي أعالي مراتب المحبة والود خليلًا، فلله دَرُّه صلى الله عليه وسـلم.
ختامًا: من خلال إكثار النص القرآني في عرض مختلف المواقف لهذا النبي الكريم، والتي تدور كلها حول دعوة التوحيد ظاهرًا ومضمونًا، فإن المسلم الحصيف يستلهم جوابًا لسؤال بالغ الأهمية مفاده:
ما الأهم الأولى في قائمة الاهتمامات والأولويات في الحيـاة بأسرها؟
يأتيه الجواب: التوحيد والاستقامة على "لا إله إلا الله"، والدعوة إليها حتى يأتيك اليقين؛ بدءًا بالنفس وتقويمها على مقتضى "لا إله إلا الله"، ومرورًا بالدائرة التي تلي من أهلين وأقارب، فالدوائر الأكثر اتساعًا ممن يليهم، إلى المجتمع والأمة، اهتمامًا بما عظَّم الله شأنه وأهله؛ وهو التوحيــد؛ لتكون طيب الذكر عند ربك، رفيعًا قدرك في العالمين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130]؛ يقول ابن القيم في معرض حديثه عن هذه الآية الكريمة: "أن الله تعالى قسم الخلائق قسمين: سفيهًا لا أسفه منه، ورشيدًا؛ فالسفيه من رغب عن ملته إلى الشرك، والرشيد من تبرأ من الشرك قولًا وعملًا وحالًا؛ فكان قوله توحيدًا، وعمله توحيدًا، وحاله توحيدًا، ودعوته توحيدًا، فالمُعرِض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع ضالٌّ شاء أم أبى" [مدارج السالكين].
اللهم أحينا على التوحيد وأمتنا على التوحيد، واجعله ذخرًا باقيًا لنا يوم القيامة بين يديك.