معنى "ما انتهى إليه بصره من خلقه"
أخرج "مسلم" في صحيحة (179) عن أبي موسى قال: " قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ .
فهذه الجملة في الحديث: تدل على أن جميع الخلائق لا تقوى في هذه الدار الدنيا على تحمل أنوار جلاله، وسبحات وجهه سبحانه، فيسترها عنهم في هذه دار النقص والفناء بالحجاب، فإذا كانت الدار الآخرة، أنشأهم الله خلقا آخر، وهيأ خلائقه في النشأة الثانية للنظر إلى وجه الله الكريم، واحتمال ما يأتيهم من أنوار الجلال؛ ثم التنعم بتلك الأنوار، والنظر إلى وجه الله الكريم في دار النعيم المقيم.
قال القرطبي شارح مسلم : " (قوله : لو كشفها ) الضمير عائد على النار أو الأنوار ، والحجاب ؛ بمعنى : الحجب ، والسبحات جمع سُبحة ، وأصلها جمال الوجه وبهاؤه ، ثم يُعبّر عنها عن العظمة والجلال ، وفي العين والصِحاح : سبُحات وجه ربّنا جلاله.
والهاء في بصره عائدة على الله تعالى على أحسن الأقوال ، وهو الذي عاد عليه ضمير وجهه ، وكذلك ضمير خلقه.
ومعنى الكلام : أن الله تعالى لو كشف عن خلقه ما منعهم به من رؤيته في الدنيا لما أطاقوا رؤيته ، ولهلكوا من عند آخرهم ، كما قال الله تعالى : ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ). ويفيد أن تركيب هذا الخلق وضعفهم في هذه الدار لا يحتمل رؤية الله فيها ، فإذا أنشأهم الله للبقاء وقوّاهم ، حملوا ذلك " انتهى من "المفهم" (1/ 411).
وقال الشيخ محمد علي آدم، حفظه الله:
"(مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ") المراد جميعُ المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظة "من" لبيان الجنس، لا للتبعيض، والتقدير: لو أزال المانع من رؤيته، وهو الحجاب المسمى نورًا أو نارًا، وتَجَلَّى لخلقه لأحرق جلال وجهه جميع مخلوقاته.
قال الطيبيّ رحمه الله: وذهب المظهر وغيره إلى أن الضمير في "بصره" إلى الخلق، و"ما" في "ما انتهى" بمعنى: "من" و"من خلقه" بيان له، والأول هو الوجه - يعني: أن رجوع ضمير "بصره" إلى الله تعالى هو المعنى الصحيح - بل فساد هذا المعنى لا خفاء فيه، والله تعالى أعلم."انتهى من "البحر المحيط الثجاج" للشيخ محمد علي آدم الأثيوبي (5/89).
وقال الشيخ "ابن عثيمين" : " يعني لو كشف هذا الحجاب ـ والحجب أيضًا من نور ، لكنها نور دون نور البارئ عز وجل.
لو كشف الله هذا النور لأحرقت سبحات وجهه أي بهاؤه وعظمته ونوره ، ما انتهى إليه بصره من خلقه ، وبصره ينتهي إلى كل شيء .
والمعنى لو كشفه لأحرق هذا النور كل شيء " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (3/ 347).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله:
" والنور: هذا هو الحجاب الذي جاء في الحديث : " حجابه النور لو كشفه لأحرقت سَبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .
والبصر : بصر الله جل وعلا ، ليس له نهاية ؛ فمعنى ذلك : أنه لو كشفه لاحترق كل شيء ، جل وعلا وتقدس وتعاظم ربنا .
فإذن الرؤية عند أهل السنة أنها لا تكون في الدنيا ، ولا في البرزخ ، وإنما هي يوم القيامة بقوة يجعلها الله جل وعلا في أعينهم ، في أعين المؤمنين ، فيرونه ." انتهى، من "شرح العقيدة الواسطية" للشيخ صالح آل الشيخ" (417) ـ الشاملةـ .
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان، حفظه الله: " ومن المعلوم أن بصر الله جل وعلا لا يحجبه شيء، ولا يمكن أن يستتر عن بصر الله جل وعلا شيء، فمعنى ذلك: أنه لو كشف الحجاب لذاب كل شيء" انتهى، من "شرح الواسطية" للشيخ عبد الله الغنيمان. الشاملة.
فالحاصل :
أن معنى الحديث: أن الله جل جلاله قد أحاط بكل شيء علما، وبصره لا منتهى له في خلقه، وأن خلقه محجوبون عن رؤية وجهه الكريم في هذه الدار، وهم لا يطيقون ذلك أصلا في دارهم الدنيا؛ فإذا كانت الدار الآخرة، أكرم عباده المؤمنين برؤيته، وهيأهم لذلك.