الدَّلِيلُ الْخَامِسُ


ماجد بن سليمان

الدَّلِيلُ الْخَامِسُ عَلى بَشريَّةِ الْمَسِيح: هُو أنَّه قَدْ جَاءَ في الأَنَاجِيلِ والرَّسَائلِ الْمُلْحَقة بِهَا أنَّ الْمَسِيحَ يَتَحلَّى بِصِفَاتِ الْبَشَر، مِنْهَا أنَّه لا يَعْلمُ أمُورًا، وجَاء فِيهَا أنَّه يَجْهَل أُمُورًا، وأنَّه يَنْسَى، وجَاءَ فِيهَا أنَّه تَعِبَ، وأنَّه يَشْتَهي الأَكْل، وأنَّه عَطْشَانٌ، وأنَّه يَحْزَنُ ويَكتئِبُ ويَتألَّمُ، وأنَّه يَنَامُ، وأنَّه يَخَافُ ويَبْكِي، وأنَّه يُصَلِّي لله، مما يدل على أنه بشر مثلنا، فيه صفات النقص، ولو كان ربا لما اعترته هذه الصفات، لأن الرب كامل في صفاتِهِ، لا يعتريه نقصٌ بوجهٍ من الوجوه.

وهَذِه بَعْضُ النُّصُوصِ الإنْجِيليَّة الَّتي وردت فيها تلك الصفات البشرية للمسيح:

جَاءَ في «يُوحَنَّا» (19/28): «قَالَ يَسُوع: أنَا عَطْشانٌ».

وفي «إنْجِيل مَتَّى» (8/24): «وكَانَ هُو نَائمًا».

وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (4/6): «فَإذَا كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِب مِنَ السَّفَر جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئرِ». 

وفي «إنْجِيل مُرْقُص» (14/32-35) أنَّه يُصَلِّي ويَحْزَنُ ويُدْهَشُ ويَكْتئبُ:

«وجَاءُوا إلى ضَيْعةٍ اسْمُها جثسيماني، فَقَال لِتَلامِيذِه: اجْلِسُوا هـٰهُنَا حتَّى أُصَلي.

ثمَّ أَخَذَ مَعَهَ بُطْرس ويَعْقُوب ويُوحنَّا، وابْتَدَأَ يُدْهَش ويَكْتَئِب.

فَقَال لَهُم: نَفْسِي حَزِينةٌ جدًّا حتَّى الْمَوْت، امْكُثُوا هُنَا واسْهَرُوا.

ثمَّ تَقَدَّم قَليلًا وخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وكَانَ يُصَلِّي لِكَي تَعْبُرَ عَنْه السَّاعَة إنْ أَمْكَنَ».

مِنَ الْمُنَاسِب هُنَا أنْ يَسْأَلَ القُارِئ نَفْسَه سُؤالًا مَنْطِقيًّا جدًّا: لِمَنْ كَانَ الْمَسِيح يُصَلِّي؟ هَلْ كَان يُصَلِّي لِنَفْسِه؟! أمْ أنَّه كَانَ يُصَلِّي لغيره وهو (الله)؟

وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (11/35): «بَكَى يَسْوعُ».

وفي «إنْجِيل لُوقَا» (22/14-15): «ولَمَّا كَانَتِ السَّاعةُ اتَّكَأَ والاثْنَا عَشَرَ رَسُولًا مَعَه.

وقَالَ لَهُمْ: شَهْوةً اشْتَهَيتُ أنْ آكُلَ هَذَا الفُصْح مَعَكُم قَبْلَ أنْ أَتَألَّمَ».

لَيْسَ هَذَا فَحَسْب، بَلْ إنَّ يَسُوعَ كَانَ يَخَافُ مِنَ الْيَهُودِ أنْ يَقْتُلُوه، كَمَا في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (11/53-57):

«فَمِنْ ذَلِك الْيَوم تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوه.

فَلَمْ يَكُنْ يَسَوعُ -أَيْضًا- يَمْشِي بَينَ الْيَهُودِ عَلانِيةً، بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاك إلى الكُورَةِ الْقَرِيبة مِنَ الْبَريَّة، إلى مَدِينَةٍ يُقَال لها: أفرايم، ومَكَث هُنَاك مَعَ تَلامِيذِه.    

وكَانَ فُصْحُ الْيَهُود قَريبًا. فَصَعِدَ كَثِيرُونَ مِن الكُورِ إلى أُورْشَليم قَبْل الفُصْح لِيُطَهِّروا أنْفَسَهم.

فَكَانُوا يَطْلُبونَ يَسوع ويَقُولُون فِيمَا بَيْنَهُم، وهمْ واقِفُونَ في الْهَيْكَل: مَاذَا تَظُنُّون؟ هَل هُو لا يَأتي إلى الْعِيد؟

وكَانَ -أيْضًا- رؤسَاء الْكَهَنَة والفَريسيُّون( قَدْ أَصْدَرُوا أَمْرًا أنَّه إنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُو فَلْيَدُلَّ عَلَيه، لِكَي يُمْسِكُوه».

$ والتَّعْلِيق عَلى هَذا كُلِّه


هَلْ يُمْكِن أنْ يَكُون مَنْ هَذِه صِفَاتُه أنْ يَكُون هو الرَّبَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ؟!
ثمَّ إنَّ مُقْتَضَى تَـحَـلِّـي الْمَسِيح بِهَذِه الصِّفَات (كَوْنه يَأْكُل ويَشْرَب ويَنَامُ ويَتَنَفَّس ونَحوُ ذَلِك) أنَّه إذَا لمْ تَتَوفَّرْ لَهُ فَإِنَّه سَيَمُوتُ، لأنَّه مُحْتَاجٌ لِهَذِه الأُمُور كَضَرُورِيَّاتٍ للْبَقَاء عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ، والْمَوْتُ لا يَنْطَبقُ عَليه لو كان ربا، لأنَّ الرَّبَّ حيٌّ لا يَموتُ، بَل يَنْطَبِق عَلَى الْجِنْسِ الْبَشَري الَّذِي تولَّد مِنْهُ الْمَسِيح.
كَذَلِك فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُل الطَّعامَ فَإِنَّه يَحْصُل مِنْه خُروجُ الْفَضَلاتِ القَذِرة الَّتي يَسْتَحِيي الإِنْسَانُ العَادي مِن ذِكْرِهَا، لِما فِيهَا من مُركَّبِ النَّقْص والقَذَارة، فَكَيفَ يَلِيقُ بِالْمَسِيح أنْ يَكُونَ ربًّا وفِيه هَذَا النَّقصُ الْعَظِيم الَّذِي يَسْتَحيي مِنْ ذِكْرهِ الْبَشَر ويَسْتَقْذِرُون وجُودَه؟!
كَذَلِك فقد تَقَلَّبَ المسيح جَنِينًا في أحْشَاء أُمِّه تِسْعَة أَشْهُر، وخَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ الْبَولِ, ثمَّ لَفَّـتْه أُمُّه في خِرْقةٍ، كسائر أطفال البشر، فلا يمكن أنَّ من كان كذلك أنْ يَكُونَ إلـٰهًا ولا ربًّا، هَذَا قَولٌ لا يَصحُّ بِالْعَقْل إطلاقا.
ومِنَ الأَدِلَّة عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْبَشَر مَا جَاءَ في «إنْجِيلِ مُرْقُص»، الإصْحَاح الْحَادِي عَشَرَ (11-14):


 

هَل يُعْقَل أنْ يَكُون الْمَسِيح إلـٰهًا وربًّا مَعَ كَوْنِه يَعْطَشُ ويَنَامُ ويَتْعبُ ويُدْهَشُ ويَكْتئبُ ويَبْكي ويَتَّكِئُ ويَشْتَهِي الأَكْلَ ويَتَألَّم (ويَخَافُ)؟!

مَا الْفرْقُ بَيْنَه وبَينَ الْبَشَرِ إذَنْ؟!

إنَّ اللهَ غَنيٌّ وقَويٌّ وخَالقٌ، وكَاملٌ في صِفَاتِه، وعَليه فَلَيْسَ مِنَ الْمَعْقُول أنْ يَخْلِق شَيئًا (مِن طَعَامٍ وشَرَابٍ) ثمَّ يَحْتَاجُ إِلَيهِ، أوْ أنْ يَكُونَ بِحَاجَةٍ إلى شَيءٍ لِيُسَاعِدَه عَلَى الْوجُودِ، لأنَّه إذَا كَانَ مُحْتاجًا إلى غَيْرِه فَهُو لَيْس ربًّا في الْحَقِيقَة، قَالَ اللهُ في القُرْآنِ واصفًا نَفْسَه: ﴿ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾(.

بَيْنَما كَانَ الْمَسِيحُ يَأْكلُ الطَّعَام ويَشْرَبُ الشَّرابَ، والْمُحْتَاجُ إلى غَيْرِه لا يمكن أن يَكُون إلـٰهًا ولا ربًّا.

هذَا كُلُّه يَدلُّ قَطعًا عَلى بُطْلانِ وَصْفِ الْمَسِيح بِالأُلُوهيَّة والرُّبُوبيَّة.

«فَدَخَلَ يَسُوعُ أُورْشَليمَ والْهَيْكَلَ، ولَمَّا نَظَرَ حَوْلَه إلى كُلِّ شَيءٍ إذْ كَانَ الْوقتُ قَدْ أَمْسَى خَرَجَ إلى بَيْت عنيا مَعَ الاثْنَي عَشَرَ.

وفي الْغَد لَمَّا خَرَجُوا مِنَ بَيْتِ عنيا جَاعَ.

فَنَظَرَ شَجَرةَ تَينٍ مِن بَعيدٍ عَلَيْهَا وَرقٌ, وجَاءَ لَعَلَّه يَجِد فِيهَا شَيئًا، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لمْ يَجِدْ شَيئًا إلَّا ورقًا، لأنَّه لمْ يَكُنْ وَقتَ التِّينِ.

فَأجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: (لا يَأْكُلُ أَحدٌ مِنْكِ ثَمَرًا بَعْدُ إلى الأَبَدِ)، وكَانَ تَلامِيذُه يَسْمَعُونَ».

$ التَّعْلِيق

في هَذِه الْقِصَّة أنَّ يَسُوعَ جَاعَ، وأنَّه ظَنَّ أنَّ شَجَرةَ التِّينِ قَدْ أَثْمَرَت، فَلَمَّا جَاءَهَا لمْ يَجِدْ شَيئًا، أي أنَّه لمْ يَتَبيَّنْ لَه قَبْلَ وصُولِه إلى الشَّجَرةِ هَل كَانَتْ مُثْمِرةً بِالتِّينِ أمْ لا، وأنَّه لمْ يَكُن يَعْلَم أنَّ الْمَوْسِم لمْ يَكُن مَوْسِم التِّينِ، فَذَهَبَ للشَّجَرةِ والْمَوسمُ لَيْسَ مَوْسِمَ التِّينِ، في حِينِ أنَّه كَانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُون عَالِمًا بِالْمَوْسِمِ لوْ كَانَ ربًّا فِعْلًا.

وفِيهَا أنَّه غَضِبَ عَلَى الشَّجَرةِ فَأَمَرَهَا بِألَّا تُثْمِر، فَحُرِمَ النَّاسُ مِنْ ثِمَارِهَا.

إن كل هذه الصفات (جاع، ظن، لم يجد شيئا، لم يتبين له، لم يكن يعلم، دعا على شجرة التين، غضب على الشجرة) كلها تدل على أنه بشر، وليس ربا، وإلا فما الفرق بينه وبين البشر؟!

ثم لِمَاذَا لمْ يَأَمُرِ الْمَسِيحُ الشَّجَرةَ (لوْ كَانَ ربًّا فِعْلًا) أنْ تُـثْمِر فيأكل من ثمرها وتَنْتَهِي الْمُشْكِلة؟!

هَذَا هُو اللَّائِق بِه لوْ كَانَ ربًّا فِعلًا.

أليس هذا أفضل من دعاءه عليها بألا تُثمر فيُحرم هو والناس من ثمرها إلى الأبد؟!

( الفريسيون: طائفة من غلاة اليهود المتعصبين والمتشددين بالمظاهر الخارجية للورع والتدين، ومنها التقيد بحَرفية الشريعة أو الناموس، مثل الامتناع عن أداء أي عمل يوم السبت، أو مخالطة غير اليهود، إذ يُعتبرون نجِسين، وقد آذوا المسيح ڠ. نقلًا من «تاريخ النصرانية، مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ» (ص59)، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع، ط 1.

( سورة الذاريات: 56- 58.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الدَّلِيلُ الْخَامِسُ

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day