الحديث الخامس (حديث الهم)


محمد بن حسين آل يعقوب

الحديث الخامس (حديث الهم)

- قال الإمام أحمد رحمه الله: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ - مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ".

الحكم على الحديث:

المسند (21590). وقال الأرنؤوط رحمه الله: إسناده صحيح. 

أهمية الحديث

1- لبيان أهمية تعلق القلب بالآخرة وتجافيه عن شهوات وهموم الدنيا.

2- ليعلم الرباني أنه إن اشتغل بالدنيا وآثرها جنى على نفسه، وفقد التوفيق.

3- تربية الرباني على أن الكافي هو الله، فلا يتعلق قلبه بالأسباب وإن باشرها بجوارحه.

غريب الحديث

1- همُّه: عزمه وما يهتم به.

2- جمع الله شمله: أي ما تشتت من امره. وفرق الله شمله: أي ما اجتمع من أمره.

3- غناه في قلبه: قانعاً بالكفاف.

4- راغمة: ذليلة: مقهورة تابعة له.

5- ضيعته: معاشه.

6- فقره بين عينيه: يشاهده؛ فيصير مستحضراً للفقر أبداً، مشفقاً من الوقوع فيه سرمداً.

فوائد الحديث

1- لا بد لكل إنسان في هذه الدنيا من هم، بل هموم يحملها، ومعتقد الرباني ويقينه يحميه من حمل الهموم ويوجهه إلى حسن التوكل على الله وحسن الظن به، وبذلك يكفيه الله ما أهمه؛

قال الله تعالى:

{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

[الطلاق: 3]

وقال تعالى في الحديث القدسي:

"أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي" (1).

2- الإنسان مخير في إرادته أن يختار الدنيا أو الآخرة؛ فمن اختار الدنيا فليس له في الآخرة شيء، ومن اختار الآخرة فله كل شيء.

قال الله تعالى:

{مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصْلَٰهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ ٱلْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}

[الإسراء: 18-19].

وقال الله تعالى:

{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَٰلَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ٱلْآخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

[هود: 15- 16].

وقال الله تعالى:

{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُۥ فِى حَرْثِهِۦ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَا لَهُۥ فِى ٱلْأَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}

[الشورى: 20].

ولهذا خير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بأمر الله تعالى؛

قال تعالى:

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}  

[الأحزاب: 28- 29].

فلا بد أن تخير نفسك، واختر لنفسك يا عبد الله؛ إما الآخرة وما فيها، وإما الدنيا وشهواتها وزينتها.

3- من كان همه الآخرة وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث هي الخير كله:

   1- جمع الله شمله.     2- جعل غناه في قلبه.      3- أتته الدنيا وهي راغمة.

فغنى قلبه وجمع شمله وإرغام الدنيا له لا تنال إلا بفضل الله عز وجل.

4- من كان همه الدنيا توعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث هي شر ما يبتلى به المرء في هذه الدنيا:

 1- تشتيت الهم.       2- فقر القلب.         3- تقدير الرزق.

وهذه مصائب تضيع عليه أمر دينه ودنياه. 

5- فحلك الوحيد أيها الرباني أن تدفع همومك كلها وتجعلها هماً واحداً؛ هم الآخرة لا غير؛

قال صلى الله عليه وسلم:

"مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا؛ هَمَّ آخِرَتِهِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ" (2). 

6- وقد يبدو هنا تساؤل: كيف يتعلق القلب بالآخرة؟ وكيف يجعل الرباني الآخرة همه؟

1- بأن يكون الموت دوماً منه على بال؛

قال صلى الله عليه وسلم:

"أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" (3).

2- أن يعرف قدر الآخرة؛

قال تعالى:

{وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْآخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٌ}

[الرعد: 26].

وقال تعالى:

{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍۢ ۗ}

[النحل: 96].

وقال صلى الله عليه وسلم:

"وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ" (4).

3- أن يكثر من ذكر الآخرة وينشغل بموقفه بين يدي الله؛

قال تعالى:

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ}

[الرحمن: 46]

وينشغل باله بالله؛ هل هو يحبه أم لا؟ هل هو راض عنه أم لا؟ هل أعماله مقبولة أم لا؟

4- أن يقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة - كما مر معنا في الحديث السابق: كَأنَّا رَأيُ عَينٍ.

فليتذكر الصراط ووضع قدمه عليه أو وقوفه أمام الميزان واضطراب قلبه أو تطاير الصحف وتطاير قلبه، وأمثال ذلك؛ فهو أعون له على تذكر الآخرة وتأثر قلبه بها، والله المستعان.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا

وبلغنا مما يرضيك آمالنا

 

المراجع

  1. أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
  2. أخرجه ابن ماجه (257). وقال الألباني: حسن. صحيح ابن ماجه (207).
  3. أخرجه أحمد (7925). وقال الأرنؤوط: حسن.
  4. أخرجه مسلم (2858).

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الحديث الخامس (حديث الهم)

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day