العفو وأثره في صلاح الفرد والمجتمع


للدكتور خالد بدير

العنصر الأول: منزلة العفو في الإسلام

عباد الله: للعفو منزلة كبيرة في الإسلام ؛ وقد حثنا الله تبارك وتعالى عليه في كتابه الكريم فقال سبحانه :

{ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }. [التغابن: 14]

فمن أعظم الأخلاق رفعة العفو عند المقدرة، وهذه عبادة مهجورة، وهي من صفات الله وأسمائه الحسنى فهو – سبحانه -: العفو القدير، أي: يعفو بعد مقدرته على الأخذ بالذنب والعقوبة على المعصية.

فالعفو بدون مقدرة قد يكون عجزاً وقهراً، ولكن العفو مع المقدرة والانتقام فلا شك أنه صفة عظيمة لله فيها الكمال، فهو – سبحانه – يحب العفو، ويحب أن يرى عبده يعفو عن الناس ؛  وقد أمرَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:

{ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}. [الأعراف:199]

. لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما هذا يا جبريل؟” قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.”( تفسير ابن كثير).

وأخرج الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي:

« يَا عُقْبَة بْنَ عَامِرٍ؛ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ »

. وعن عُرْوَةَ ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – يعني ابْنَ الزُّبَيْرِ – في قَوْلِهِ : (خُذِ الْعَفْوَ) قَالَ :أُمِرَ نَبِىُّ اللَّهِ , صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاَقِ النَّاسِ.( البخاري ).

والعفو من صفاته صلى اللهُ عليه وسلم التي وصف بها في التوراة، فعن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ عَطَاءَ بنَ يَسَارٍ سَأَلَهُ أَن يُخبِرَهُ عَن صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي التَّورَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا، وَمُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ” . ( البخاري) .

وعن أَبي عَبْدِ اللَّهِ الجَدَلِيّ قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:

« لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ ». ( الترمذي وقال: حسن صحيح ).

ولقد جعل الله تعالى خلق العفو من صفات المتقين. قَالَ تَعَالَى:

{ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين } [آل عمران: 133 – 134].

يقول الإمام ابن كثير ” : أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد وهذا أكمل الأحوال “. ( تفسير ابن كثير ).

روي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال لها: قد فعلت. فقالت: اعمل بما بعده {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} . فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى. ( تفسير القرطبي ).

وجعل العفو عن الناس أقرب إلى التقوى ؛ فقال سبحانه :

{ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }. [البقرة: 237]

. كما جعله سبباً لمرضاة الله ومغفرته وعفوه , فقال سبحانه :

{ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }. [النساء: 149]

والعفو عن الناس سبيل العزة والرفعة؛ فعن أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ”.( مسلم ).

أيها المسلمون: إن أكمل العفو وأفضله وأعلاه هو عفو الله عن عباده ؛ فالعفْوُ من صفات الله عز وجل، والعفوّ من أسمائه الحسنى؛ ومعناه: الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، ويصفح عمن تاب وأناب. قال تعالى:

{ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } (النساء: 149)

 وقال:

{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }. (الشورى: 25)

 وقال:

{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. ( الشورى: 30)

 والعفو من الله أعلى منزلة من الغفران؛ يقول محمد منير الدمشقي في الإتحافات السنية : «العفو في حق الله تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالبه بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم، لئلا يخجلوا عند تذكيرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة، والعفو أبلغ من المغفرة، لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر . » أ.ه

فالعفو من أرفع المنازل ؛ سواء كان العفو من الله عز وجل عن عباده ؛ أو عفو الناس بعضهم عن بعض كما في عنصرنا التالي .

العنصر الثاني: نماذج وصور في العفو

عباد الله: تعالوا لنعرض لكم صوراً مشرقة ونماذج مضيئةً من عفو الرسول والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين:

فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم القمة والدرجة العالية في العفو والصفح، كما هو شأنه في كلِّ خلُقٍ من الأخلاق الكريمة، فكان عفوه يشمل الأعداء فضلًا عن الأصدقاء؛ وكان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس صفحًا، يتلقى من قومه الأذى المؤلم فيعرض عن تلويمهم، أو تعنيفهم، أو مقابلتهم بمثل عملهم، ثم يعود إلى دعوتهم ونصحهم كأنما لم يلقَ منهم شيئًا.

فمنها : عفوه عن أهل ثقيف: فعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ:

«لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمُ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ»، قَالَ: «فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ»، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا». ( البخاري ومسلم ).

ومن صور عفو النبي – صلى الله عليه وسلم – أيضاً ؛  موقفه مع أهل مكة:  

” لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل البيت، فصلى بين الساريتين ، ثم وضع يديه على عضادتي الباب، فقال: لا إله إلا الله وحده ماذا تقولون، وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيرًا، ونظن خيرًا: أخ كريم، وابن أخ، وقد قدرت، قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف صلى الله عليه وسلم:{ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين }.[يوسف:92]. اذهبوا فأنتم الطلقاء ” . ( البيهقي ).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا في ظل شجرة، فإذا برجل من الكفار يهجم عليه، وهو ماسك بسيفه ويوقظه، ويقول:

يا محمد، من يمنعك مني. فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ثبات وهدوء: (الله). فاضطرب الرجل وارتجف، وسقط السيف من يده، فأمسك النبي السيف، وقال للرجل: (ومن يمنعك مني؟). فقال الرجل: كن خير آخذ. فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنه. [متفق عليه].

ومن نماذج وصور العفو عند الصحابة الكرام ؛ عفو أبي بكر رضي الله عنه عن مسطح بن أثاثة: ” وكان مسطح ممن تكلم في الإفك، فلما أنزل الله براءة عائشة، قال أبو بكر الصديق: – وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره- والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ } [النور: 22] إلى قوله { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }. قال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال والله لا أنزعها منه أبدًا “. (البخاري).

 ومنها: عفو أبي بكر – رضي الله عنه – عن الرجل الذي سبه وشتمه:

 فعن أبي هريرة رضي الله عنه: ” أن رجلًا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب، ويتبسم، فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله؛ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقام فلحقه أبو بكر، فقال: يا رسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: إنه كان معك مَلَك يردُّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان؛ فلم أكن لأقعد مع الشيطان. ثم قال: يا أبا بكر، ثلاث كلُّهنَّ حقٌّ: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله عزَّ وجلَّ إلا أعزَّ الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزَّ وجلَّ بها قلة “. (أحمد والبيهقي؛ وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح) .

ومن هذه النماذج والصور : عفو عمر بن الخطاب – رضي الله عهنه – عن خصمه:

 فعن ابنِ عَبَّاسٍ – رضي اللهُ عنهما – قَالَ:

“دَخَلَ عُيَينَةُ بنُ حِصنٍ عَلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين } [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ” . ( البخاري).

وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه: يمر بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر، أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغِض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ }. [النور: 22].

ومنها:  عفو سليمان بن عبد الملك:

فقد ” غضب سليمان بن عبد الملك على خالد القسري، فلما أدخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، إنَّ القدرة تذهب الحفيظة (الحمية والغضب) ، وإنك تجلُّ عن العقوبة، فإن تعفُ فأهلٌ لذلك أنت، وإن تعاقب فأهل لذلك أنا، فعفا عنه.

واحتال يزيد بن راشد في الدخول على سليمان متنكرًا بعد أن ولي الخلافة، فقعد في جماعة من الناس؛ وكان سليمان قد نذر أنه إن أفضت إليه الخلافة قطع لسانه؛ لأنَّه كان ممن دعا إلى خلع سليمان، والبيعة لعبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، كن كنبي الله أيوب عليه السلام، ابتُلي فصبر، وأُعطي فشكر، وقدر فغفر. قال: ومن أنت؟ قال: يزيد بن راشد، فعفا عنه ” . ( وفيات الأعيان لابن خلكان ) .

هذه بعض صور العفو والصفح لنأخذ منها العظة والعبرة ؛ ولنطبقها على أرض الواقع ؛ كما سيأتي في عنصرنا الرابع إن شاء الله تعالى .

العنصر الثالث: وسائل اكتساب العفو

عباد الله: قد يقول قائل: كيف أتخلق بخلق العفو ؟ وكيف أنال عفو الله ؟ أقول تنال ذلك بعدة وسائل تتمثل فيما يلي:

  1. الدعاء: فيشرع للمسلم أن يكثر من سؤال الله العفو، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: “قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ، تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي” .

وعن أبي بكر قال:« قام رسول الله على المنبر ثم بكى، فقال: سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية» [ابن ماجة والترمذي وحسنه]. وعن عبد الله بن عمر قال :« لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح « اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ؛ وأعوذ بك أن أغتال من تحتي». [ ابن ماجة والحاكم وصححه] .

  1. سرعة الاستغفار والندم بعد الذنب: ففي حديث أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:”إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لِيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلا كُتِبَتْ وَاحِدَةً”. ( الطبراني بسند حسن ). وهذا بخلاف الحسنة التي يكتبها ملك الحسنات على الفور، ويكتبها عشرًا لا واحدة، ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة.
  2. التوبة الصادقة: والتوبة عمل صالح يمحو العمل السيئ: « وأتبع السيئة الحسنة تمحُها» ( أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح).
  3. العفو عن المسيء وقبول عذر المعتذر: وذلك رجاء أن يعاملنا الله بالمثل، كما فعل أبو بكر الصديق مع مسطح بن أثاثة بعد أن وقع في عِرض ابنته عائشة، فحين أنزل الله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور من الآية:22]، فهمها أبو بكر وعمل بها على الفور فقال: “بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي”، ثم عفا عن مسطح ؛ كما سبق بيانه .

العنصر الرابع: حاجة الأمة إلى خلق العفو

عباد الله: ما أحوج الأمة الإسلامية إلى خلق العفو والصفح؛ لعل الله يعفو عنا جميعاً في الآخرة ؛ يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله – :” يا ابن ادم .. إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو ؛ وإنك تحب أن يغفرها لك الله ؛ فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده ؛ وأن وأحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده ؛ فإنما الجزاء من جنس العمل … تعفو هنا يعفو هناك ؛ تنتقم هنا ينتقم هناك ؛ تطالب بالحق هنا يطالب بالحق هناك.” أ . ه . فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:”  كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ؛ فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ؛ فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ “. (البخاري).

وأخرج الإمام أحمد والبيهقي بسند جيد؛ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ: « ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ».

فقد تكفل الله بالأجر وأخفى مقداره تعظيماً لمن عفا عن الناس. يقول – سبحانه وتعالى -:

{ فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ}. (الشورى: 40)

 فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال 

بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما : يا رب خذلي مظلمتي من أخي فقال الله تبارك وتعالى للطالب : فكيف بأخيك ولم يبق من حسناته شيء ؟ قال : يا رب فليحمل من أوزاري قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال : إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن قال : يا رب ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه قال : بماذا قال : بعفوك عن أخيك قال : يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله عز وجل : فخد بيد أخيك فادخله الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين ” ( الحاكم وصححه ؛ وضعفه آخرون ).

فعلى كل مسلم أن يتخلق بخلق العفو ؛ ولا يقابل السيئة بالسيئة ؛ بل يعفو ويصفح ولا يقول إلا خيراً ؛ كما مر عيسى عليه السلام بقوم من بني إسرائيل فقالوا له شراً ، فقال خيراً، فقيل له: إنهم يقولون لك شراً وتقول خيراً؟! فقال لهم عليه السلام : كل واحد ينفق مما عنده !!

ومرّ يهودي معه كلب على إبراهيم بن أدهم رحمه الله، فجعل يستهزئ به ويسخر منه، قائلا: ألحيتك يا إبراهيم أطهر من ذَنَبِ هذا الكلب، أم ذَنَبُ الكلب أطهر من لحيتك؟ فماذا كان ردّ إبراهيمَ بنِ أدهم رحمه الله؟ هل خاصمه؟ هل سبه؟ هل ردّ عليه بالمثل؟ ما كان منه إلا أن قال – بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله عز وجل-: “إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذَنَب كلبك، وإن كانت في النار لذَنَب كلبك أطهر منها. فما مَلك هذا اليهودي إلا إن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء.

{ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:34-35]

أيّها المسلمون: عليكم بالعفو والصفح والتجاوز؛ فإنه لا عافيةَ ولا راحة ولا سعادة إلا بسلامةِ القلب من وسَاوس الضغينة وغواشي الغِلّ ونيران العداوة وحسائِك الحقد، ومن أمسَك في قلبِه العداوة وتربَّص الفرصَةَ للنّقمَة وأضمَر الشّرَّ لمن أساء إليه تكدَّر عيشُه، واضطربت نفسُه، ووهنَ جسدُه، وأُكِل عِرضُه. قال الشافعي رحمه الله :

لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ  ****  أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ

إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِــــــــــــنْدَ رُؤْيَتِه ِ ****  لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّــــــــحِيَّاتِ

وَأُظْـــــــــــهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ  ****  كَأَنَّمَا قَدْ حَــــــشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ

النَّـــــــــــــاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ  **** وَفِي اعْتِزَالِهِمْ قَـــــــــطْعُ الْمَوَدَّاتِ

فصاحب العفو ينام على فراشه بالليل هادئاً مطمئناً، يرجو الثواب والأجر من الله، لأنه عفا ولم ينتقم. أما من انتصر لنفسه وانتقم لها فإنه يبيت مضطربا قلقا تراوده الهموم والهواجس؛ لعله قد تجاوز الحد واعتدى، فيقول يا ليتني عفوت وتجاوزت وما انتقمت.

فتعافَوا بينكم عبادَ الله، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم؛ اجعلوا العفو والصَّفح شعاركم وخلقا لكم في بيوتكم وشوارعكم ونواديكم وأسواقكم، اخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فسحةِ المُسامحة، ومن مَشقة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة، واطوُوا بساطَ التقاطُع والوحشة، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة، ورُوموا أسبابَ المودّة، واقبَلوا المعذِرة؛ فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم، وإذا قدرتم على المُسيء فاجعَلوا العفوَ عنه شُكرًا لله للقدرة عليه. 

اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا ؛؛

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ العفو وأثره في صلاح الفرد والمجتمع

  • العفو

    فريق عمل الموقع

    العفو قال تعالى: (إن الله كان عفوا غفورا)، وأوصى ﷺ عائشة بأن تدعو في ليلة القدر بـ: (اللهم إنك عفو تحب العفو

    13/01/2021 1688
  • العفو

    د. باسم عامر

    الدليل: قال الله تعالى: ﴿ إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ

    19/09/2021 615
  • الوتر

    د. باسم عامر

    الدليل: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مَنْ

    30/11/2022 654
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day