كورونا الداء والدواء(الجزء الاول)


ماجد بن سليمان الرسي

 الخطبة الاولي : كورونا الداء والدواء


إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.


أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

• أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى واحذروه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله سبحانه حكيم فيما يقدره على عباده من خير وشر، وسراء وضراء، فمِن تلك الحكم اختبار صبرهم على فعل الطاعة، وترك المعصية، وكذلك احتمال صبرهم على ما يُـــقَـــدِّره عليهم من نقصٍ في الأنفس والثمرات والأموال،

قال الله تعالى

(ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)

 أي نبتليكم بالغنى والفقر، والعز والذل، والحياة والموت، والصحة والمرض، والوباء والعافية، لنعلم أيكم يحسن عملا، فيؤوب ويتوب، وأيكم يستمر في معاصيه، غافلا عن مراد الله بذلك التقدير.


• أيها المؤمنون، لا يخفى أن من أعظم ما قدر الله على الناس في هذا الزمان من البلايا وقوع وباء كورونا، هذا الوباء الذي تسبب في تعطيل مصالح الناس، وفي وقوع الوَفَـــــيات، وفي حصول الخسائر المادية والبشرية، فينبغي للمسلم البصير أن يجعل من ذلك عظة لنفسه، فليس تقدير وقوع هذا الوباء مِن قَــبِـيل العبث، حاشا لله، بل قدَّره لحكمة عظيمة، قد ذكرها مرارا في القرآن العزيز، وهي انغماس الناس في الذنوب والمعاصي،

قال الله تعالى

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون)،

وقال تعالى

(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير). 

• فحصول هذا البلاء العام هو بسبب ذلك الفسوق والعصيان، وهو مشاهد غير خافٍ، فقد انتشر الفساد الإعلامي، وعلا فيه صوت الطرب والمجون والاستهزاء بالدين وأهله حتى في رمضان، وصار التعامل بالربا أمرا طبيعيا، ولا يُسمى فسادا، وانتشر التبرج والاختلاط في ميادين العمل والأسواق، وتهاوَن النساء بالحجاب، ناهيك عن لبس العباءات الفاتنة، مِن المزخرفة والضيقة، وأما النوم عن الصلوات وهَجْرِ المساجد والانشغال عنها بالبيع والشراء فَحَدِّث ولا حرج، فهل بعد هذا يُستغرب وقوع البلاء العام؟ 


• أيها المسلمون، إن ما أصاب الناس من الفساد في المعايش ونقصها وحلول الآفات بها وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة، فعجّل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا، لعلهم يرجعون عن أعمالهم التي أثَّــرت لهم من الفساد ما أثَّــرت، فتصلُح أحوالهم ويستقيم أمرهم، وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة

قال الله تعالى

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون).

• عباد الله، إن من حكمته تعالى في تقدير الأمراض والأوبئة أن يظل العبد معلقا قلبه بالله، مدركا أن ما هو فيه من النعمة والغنى إنما هو رزق من الله، قد يغيره الله في أي لحظة، فيظل العبد مستمسكا بأمر الله، حذِرا من الوقوع في معصيته، كي لا تزول تلك النعمة، فإن النعم إذا شُكِرت قَــــرَّت، وإذا كُفِرت فرَّت.


• ومن حكمته تعالى في تقدير الأمراض والأوبئة أن في ذلك تذكيرا لأهل الغفلة والمعصية، حتى يرجعوا إلى ربهم، ويتوبوا إلى بارئهم، ويعلموا أن لهم ربا رقيبا، يأخذ بالذنب ويعاقب عليه،

قال الله سبحانه

(وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون)،

وقال تعالى

(فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا).

• ومن حكمته تعالى في وقوع هذا الوباء ظهور قسوة قلوب بعض العصاة باستمرارهم على المعاصي، وتزيين الشيطان لهم ذلك، حتى ظنوا أن ما هم عليه حسنٌ، وأنه ليس له تأثيرٌ في فساد الكون وحلول النكبات، ثم استدراج الله لهم بإمهالهم وإدرار النعم عليهم على ما هم عليه من المعاصي والغفلة حتى يُؤْخَذُوا على غِرَّة،

قال تعالى

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين)

وقال تعالى

(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون)

وقال تعالى

(ولَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُون)

، أي آيِسون من رحمة الله.
• ومن حكمته تعالى في تقدير الأمراض والأوبئة ما رتب على ذلك من الثواب لمن صبر واحتسب، ورضي ولم يجزع،

قال (صلى الله عليه وسلم):

عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِن، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه 1. 

وَعَنْ أَبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):

مَا يَزَال الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ في نَفْسِهِ وَولَدِهِ ومَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّه وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئة 2. 

• ومن حكمة الله في هذا الوباء ظهور ضعفِ البشر وعجزِهم أمام هذا الوباء الصغير، فهذه الأمم التي بلغت شَأْوًا عظيما في التقدم والحضارة والتكنولوجيا والاكتشافات والاختراعات وقفت حائرة مدهوشة عاجزة أمام هذا الوباء الصغير، فكم من دولة قالت (من أشد منا قوة)، فإذا هي بهذا الوباء يَـنكسر عنفوانها، وتنشغل بنفسها عن الاشتغال بغيرها،

وصدق الله

(ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي أمر الله إن الله لا يخلف الميعاد)

وقال تعالى

(فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)

وقال تعالى

(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها).

• أيها المسلمون، ومن العجب أنَّ بعض الناس يَعْـــزُون ما حلَّ بالأُمَّةِ من وباء إلى أسباب مادية بحتة، كتقصير في التحصُّن بالمضادات الحيوية، أو تقصير في محاصرة الوباء في منشئه، ونحو ذلك من الأسباب التي يرددها من لا يؤمن بالقدر، وهذا مما لاشك أنه نظر مادي قاصر، ودليل على قلة العلم والإيمان، فالله وحده هو الذي قدر وقوع هذا الوباء، وهو وحده الذي بيده رفعه، أولم يسمعوا إلى

قول الله تعالى:

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون)

وقال تعالى

(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون).

• ومن حكمة الله في هذا الوباء ظهور المصلحة العظيمة في سلامة من نجاه الله من هذا الوباء بطاعة ولاة أمور المسلمين واجتماع الكلمة ووحدة الصف والتلاحم بين الراعي والرعية، في لزوم البيوت، ومنع التجوّل، والأخذ بالأسباب الاحترازية والتدابير الوقائية والتوجيهات الصحية للــــبُــعد من حصول العدوى بهذا الوباء.


• فالله الله عباد الله بتقوى الله، ومراقبته في السر والعلانية، والحذرَ الحذرَ من الغفلة عنه، والتمادي في معصيته،

قال تعالى

(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)

، فالذي قدَّر إصابة من حولنا بالوباء قادر على أن يصيبنا به، وعليكم بالتوبة النصوح من سائر المعاصي والذنوب، فهي مفتاح الخروج من هذا البلاء العام، كما فعل عمر رضي الله عنه لما قحط الناس في عام الرمادة فخرج بالناس يستسقي فقال: (اللهم ما نزل بلاء إلا بذنب، ولم يُكشف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة).
• بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.

المراجع

  1. رواه مسلم (2999).
  2. رواه التِّرْمِذيُّ (2399) واللفظ له، وَقالَ: (حديثٌ حسنٌ صحِيح)، وأحمد (7859)، وانظر «السلسلة الصحيحة» (2280).


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ كورونا الداء والدواء(الجزء الاول)

  • كورونا الداء والدواء(الجزء الثاني)

    ماجد بن سليمان الرسي

    الخطبة الثانية: كورونا الداء والدواء الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فيا أيها

    19/04/2021 936
  • ذكر الله

    الشيخ محمد صالح المنجد

      ذكر الله وهو من أعظم أسباب التثبيت. - تأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل:  {يَا

    10/03/2013 3355
  • اسطوانة كيف تتعامل مع الله ؟

    فريق عمل الموقع

      بحمد الله وتوفيقة تم الانتهاء من اسطوانة كيف تتعامل مع الله الجزء الاول للشيخ مشاري الخراز لموقع معرفة

    26/09/2011 8022
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day