الشبَهات حول أسماء الله (العلي - الأعلى - المتعال)
الشبهة:
أهل السنة يقولون إن الله تعالى في السماء، مستوٍ على عرشه بكيفية لا نعلمها.
فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قال الإمام مالك.
وهذا تفويض للكيفية لا المعنى، فنوقن أن الله فوق العرش، ولا ندري كيف، وهذا منتهى علمنا، ولا نتكلف من العلم ما لا نعلم.
من خالف أهل السنة في هذا الباب هم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فهم ينفون أن الله تعالى في السماء مستوٍ على العرش، وفيما يلي بيان مذهبهم.
مذهب المعتزلة:
جمهور المعتزلة على أن الله في كل مكان، وأن معنى ذلك أن تدبيره في كل مكان، ومنهم من يقول: الباري لا في مكان! بل هو على ما لم يزل عليه.
وهم يقولون إن استوى في كتاب الله معناها استولى.
مذهب الأشاعرة:
استقر مذهب الأشاعرة على تأويل العلو كما هو الحال عند المعتزلة، وذلك على الرغم من أن متقدمي الأشاعرة لم يقولوا بتأويل صفة العلو.
فالأشعري الذي ينتسبون إليه ويزعمون أنهم يقولون بقوله: لا يؤول صفة العلو، كما سبق النقل عنه!.
وكذلك الباقلاني وهو من أبرز أئمة الأشاعرة لا يؤول صفة العلو أيضًا.
ثم بدأ يظهر تأويل صفة العلو على يد ابن فورك، فأوَّل الاستواء بأنه بمعنى العلو بالقهر والتدبير، وكذلك البغدادي أوَّله بأنه بمعنى الملك، وهم مع ذلك يرُدُّون مذهب المعتزلة أن الاستواء معناه الاستيلاء، إلى أن جاء الجويني فوافق المعتزلة أن الاستواء معناه الاستيلاء، بل قرَّر أن هذا القول يستقيم على أصول الأشاعرة أكثر من استقامته على أصول المعتزلة! وبذلك يكون الجويني هو أول من ارتضى هذا التأويل الاعتزالي، ثم جاء الغزالي ليؤصل لمنهج التأويل وينقل معركة الأشاعرة من كونها مع المعتزلة لتكون مع الفلاسفة ويستقر الأمر على هذا المذهب.
ومستند أهل التأويل:
الذين يؤوِّلون علو الرحمن في السماء، واستوائه على العرش، يفعلون ذلك بزعم التنزيه، فهم يرون أن إثبات العلو يلزم منه إثبات الجهة، ويلزم منه أن الله تعالى يحويه مكان، ويلزم منه أن الله يشبه مخلوقاته، ولذا ذهبوا إلى تأويل الاستواء في الآية فقالوا هو بمعنى الاستيلاء، وفسروا العرش بالملك، واعتمدوا في ذلك التأويل على بيت من الشعر هو:
قد استوى بشر على العراق = من غير سيف ولا دم مهراق
أما حديث الجارية فلهم فيها تأويلات كثيرة منها:
– تأويله بأن المراد منه هو علو المنزلة والقدر.
– وكذلك تأويله بأن المراد التفرقة بين عبادة الله وعبادة الأوثان، لأن الأوثان في الأرض.
وهم متى أعياهم التأويل ردوا الأحاديث الواردة بأنها أحاديث آحاد لا تفيد العلم، فلا تقبل في العقيدة.
وكذلك يستدلون على مذهبهم ببعض الحجج العقلية منها: أن صفة القدم تنفي أن يسبق وجوده شيء قبله أو وجود شيء معه، وإثبات الجهة والمكان يقتضي أن الله لم يكن متصفًا بالفوقية من حيث الجهة إلا بعد خلق العالم، فقبل خلق العالم لم يكن في جهة الفوق لعدم وجود ما هو في جهة الأسفل، وبهذا تكون الفوقية المكانية أو العلو المكاني صفة حادثة نتجت عن حادث، ولذا فهي لا تصلح صفة لله تعالى.
ويزعمون كذلك أن هذا هو المنقول عن بعض الأئمة، فنقلوا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: « كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان ».
وأن أبا حنيفة قال: « قلت أرأيت لو قيل أين الله تعالى ؟ يقال له: كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء، وهو خالق كل شيء ».
وكذلك نسبوا للشافعي أنه قال: «إن الله كان ولا مكان، فخلق المكان على الصفة الأزلية كما كان قبل خلقه المكان، ولا يجوز عليه التغيير في ذاته، ولا التبديل في صفاته».
الرد عليها:
أولاً: لا يلزم من إثبات الاستواء ما ذكروه من اللوازم.
وسر ذلك أن هذه اللوازم إنما تلزم من يطلب كيفية الصفة، ونحن نقول لا يجوز طلب كيفيتها، فلا تلزمنا كل هذه اللوازم، فنحن نثبت الصفة كما أثبتها الله لنفسه، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، ولا نخوض فيما كتم عنا علمه.
ثانيًا: لا يلزم من إثبات صفة لله أن يكون فيها مشابهة للمخلوقين، فكما أن الله سميع وسمعه ليس كسمعنا، وبصير وبصره ليس كبصرنا، فهو مستوٍ على عرشه: بصفة لا نعلمها، وليست كاستوائنا.
وهذا الرد على بساطته لا مخرج لهم منه !.
وقد ساق الجويني مثل هذا الدليل وهو يرد على متقدمي الأشاعرة الذين يؤولون بعض الصفات دون بعضها!.
وذكره الآمدي كاعتراض على مذهب الآشاعرة، ولما كان لا مخرج له منه: رده بأنه وإن كان لا يمتنع لكنه مجرد احتمال، والعقائد لا تثبت بالاحتمال، أما الاحتمال الآخر فيترجح بالأدلة العقلية!.
ثالثًا: وأما الجواب عن أن العلو يلزم منه إثبات الجهة فيقال لهم: لفظ الجهة من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة، فهو لفظ مجمل، فلا يُنفى بإطلاقٍ، ولا يُثبت بإطلاق، وإنما نتبين ما المعنى المقصود من لفظ الجهة؟
فإن كان المقصود: نفي علو الله تعالى على عرشه، ونفي أنه بائن عن خلقه، فهذا قولٌ باطلٌ، قد دل الدليل على خلافه.
وإن كان المراد أن الجهة شيء مخلوق، وأن المقصود هو أن الله تعالى مباين لخلقه فهذا معنىً صحيح.
رابعًا: تأويل الاستواء بالاستيلاء باطل من وجوه عدة:
الأول: أن تأويل الاستواء بالاستيلاء لا تعرفه العرب في لغتها، ولم يقله أحد من أهل اللغة، بل إن ابن الأعرابي أنكره ، وكذلك الخليل بن أحمد، وسيأتي الحديث عن بيت الشعر الذي ذكروه.
الثاني: أن هذا التأويل لم يقل به أحد من السلف من الصحابة والتابعين، وهذا وحده كاف في رد هذا التأويل وبيان بطلانه.
الثالث: أن الاستواء لو لم يكن بمعناه المعروف لما احتاج لأن يقول أن الكيف مجهول، فقول مالك: الكيف مجهول دليل على أن المراد بالاستواء: الاستواء المعلوم من لغة العرب.
الرابع: على التسليم بأن الاستيلاء معنى مجازي يجوز حمل اللفظ عليه، فإنه لا يجوز في حق الله تعالى، لأن الاستيلاء على الشيء لا يكون إلا بعد منازعة، وهو واضح في بيت الشعر الذي يذكرونه.
الخامس: لو كان استوى بمعنى استولى: لاقتضى ذلك جواز نسبة الاستواء إلى الموجودات كلها كنسبته إلى العرش، ولجاز أن يقال: استوى على السماء وعلى البحار و على الأرض كما يقال استوى على العرش، وقد اتفق المسلمون على أن ذلك لا يجوز أن يقال.
أما البيت الذي ذكروه فالجواب عنه ما يلي :
الأول: هذا البيت مصنوع، لا يعلم قائله، ولو كان هذا الاستدلال بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتجنا للبحث عن صحته، فكيف ببيت شعر لا يعلم قائله؟!، ولا نعلم صحة نسبته إليه؟! بل وأنكره أئمة اللغة الكبار ؟!.
الثاني: من نسب إليه هذا البيت هو الأخطل، في مدح بشر بن مروان، وعلى فرض صحة تلك النسبة فلا حجة فيه مطلقاً، لأمور:
منها: أن هذا القول من قائله على سبيل المجاز، ولا يصح في المعنى المجازي أن يقال إنه من معاني هذا اللفظ، كما لا يصح القول إن من معاني الأسد الرجل الشجاع وإن كان يطلق عليه على سبيل المجاز.
ومنها: أن هذا القول على سبيل المجاز، والمجاز لا يجوز حمل الكلام عليه إلا مع قرينة تدل على إرادته، وليس في الخطاب قرينة تدل على أن المراد هو الاستواء.
خامسًا: ما ذكروه من أن إثبات الجهة والمكان يقتضي أن الله لم يكن متصفًا بالفوقية من حيث الجهة إلا بعد خلق العالم كلام باطل، والجواب عنه من وجهين:
الأول: أن هذا يلزم منه أنه أيضًا لم يتصف بالعلم إلا بعد وجود المعلوم، ولا بالسمع إلا بعد وجود المسموع، وكذلك لم يستحق اسم الخالق إلا بعد وجود المخلوقات، فما يقال هنا يقال في سائر الصفات، وجوابهم عنه هو جوابنا عن سائر الصفات.
الثاني: أن هذا لازم لمن يطلب معرفة كيفية الصفة، ونحن نفوض معرفة كيفيتها إلى الله تعالى فلا يلزمنا ذلك.
سادسًا: الجواب عما نقلوه عن الأئمة كالتالي :
النقل الأول: ما نُسب لعلي بن أبي طالب.
ما نُسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا وجود له في كتب السنة، وقد ذكر ابن تيمية أن هذه اللفظة لا وجود لها في شيء من دواوين السنة !
ووالله إن العجب لا ينقضي من هذا!، فإنهم يردّون حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح لأنه آحاد، ويؤولون آيات القرآن على غير ظاهرها، ثم يقبلون أثراً عن صحابي لا سند له مطلقًا، ثم يُجرُونه على ظاهره، ولا يقبلون تأويله، فأي اتباع للحق هذا الذي يفعلوه ؟!
النقل الثاني : ما نسب لأبي حنيفة.
قبل الحديث عن ما نسب لأبي حنيفة، نذكر النقل المنسوب له كاملاً:
قال: «لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى، ولا يقال غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه، ونصفه كما وصف نفسه: أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، حي قيوم قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلقه، وليست جارحة، وهو خالق الأيدي، ووجهه ليس كوجوه خلقه، وهو خالق كل الوجوه، ونفسه ليست كنفس خلقه وهو خالق كل النفوس
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى : 11]
قلت: أرأيت لو قيل أين الله تعالى؟ فقال: يقال له كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق، وهو خالق كل شيء، فإن قيل بأي شيء شاء الشائي المشيء؟ فقل: بالصفة، وهو قادر يقدر بالقدرة، وعالم يعلم بالعلم، ومالك يملك بالملك».
وجوابنا عن هذا من وجوه:
أولاً: يلزم المستدل بهذا القول أن يثبت أن قول أبي حنيفة في الصفات الفعلية بخلاف قول الأشاعرة، وهم لا يقولون ذلك!.
ثانيًا: الواضح من سياق الكلام أنه يتحدث عن أن صفات الله لا تشبه صفات المخلوقين، فالله كان سميعًا قبل خلق الموجودات، فكذلك في مكانه الذي دلت عليه الآيات قبل خلق الأماكن والجهات.
وليس في هذا النقل ما يدل على نفي العلو.
ثالثًا: هذا كله على فرض صحة نسبة الفقه الأكبر والفقه الأبسط لأبي حنيفة، فرواة هذه النصوص ما بين ضعيف ومجهول.
النقل الثالث: ما نسب للشافعي.
ما نسب للشافعي مذكور في كتاب (إتحاف السادة المتقين) بلا سند، وغير موجود في كتبه التي بين أيدنا.
ثم إن الثابت عنه خلاف ذلك!
قال الشافعي في وصيته: «وأشهد أن الإيمان قول وعمل… وأن الله عز وجل يُرى في الآخرة ينظر إليه المؤمنون عيانًا جهارًا ويسمعون كلامه، وأنه فوق العرش».
وقال في عقيدته: «وأؤمن برؤية الله.. وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء».
سابعًا: كيف تكون كل هذه الآيات والأحاديث على كثرتها غير مرادة الظاهر، وهل يعقل أن يخاطب الله عباده بكل هذه الآيات ويكون ظاهرها غير مراد؟!، ثم يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بنفس مضمون الخطاب ويكون ظاهره غير مراد؟!
وكيف يكون هذا التأويل صحيحًا وهو قول لم يُعرف له قائل من الصحابة ولا التابعين، بل المتواتر عن الأئمة رده، وهل يعقل أن يكون المراد من هذه الآيات والأحاديث فات الصحابة والتابعين جميعًا، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
ثامنًا: تطور مذهب الأشاعرة من إثبات الصفة ثم تأويلها بالقهر ثم بالملك ثم بالاستيلاء دليل في نفسه على بطلان هذا المذهب، إذ لو كان صحيحًا لما تغيرت أقوالهم وتبدلت وهم يقولون إنه أمر قطعي لا مجال للظن فيه، فكيف يكون قطعيًا وهم أنفسهم مختلفون فيه ؟!
تاسعًا: دعوى أن أحاديث الآحاد لا تقبل في العقائد دعوى باطلة، واستدلال فاسد، فالحديث متى صح إسناده فهو حجة بنفسه سواء في العقائد والأحكام، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
حديث تحويل القبلة، حيث تحول المسلمون في صلاتهم من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة وهم يصلون عندما أتاهم آت فأخبرهم أن القبلة حٌوِّلت إلى المسجد الحرام.
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الرسل لإبلاغ دين الله إلى القبائل يعلمونهم أمور دينهم وهم آحاد، ولو كان حديث الآحاد غير مقبول لوسع أحدهم أن يحتج بأن ما بلغه إنما بلغه عن طريق شخص واحد، ولو كانت تلك حجة صحيحة لما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
رد حديث الآحاد مبني على أنه لا يفيد اليقين، بل يفيد الظن الغالب، وكون الظن الغالب لا يقبل في أمور الاعتقاد دعوى لا دليل عليها، ولا وجه للتفرقة بين الأمور العملية والأمور الاعتقادية، إذ الكل شرع من عند الله.
للمزيد يراجع: https://salafcenter.org/3070/