مقال : العلي , الأعلى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
فاللعلو عند السلف الصالح ثلاثة معان علو الذات ، وعلو الشأن والقدر ، وعلو القهر.
"فإن من لوازم اسم العلي العلو المطلق بكل اعتبار فله العلو المطلق من جميع الوجوه , علو القدر, وعلو القهر , وعلو الذات, فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه العلي" [مدارج السالكين 1/31]
فأما علو الفوقية أو علو الذات الذي دل عليه اسمه العلي ثابت على الحقيقة بالكتاب والسنة وإجماع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم ، وليس فوقه شيء كما في الصحيح عن النبي ( وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ) [صحيح مسلم].
قال ابن القيم "إن الآيات والأخبار الدالة على علو الرب على خلقه ,واستوائه على عرشه تقارب الألوف" [مختصر الصواعق 1/386] .
وهو سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه ، لا شيء من ذاته في خلقه ، ولا خلقه في شيء من ذاته ، وهو من فوق عرشه يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى أفعالهم لا تخفى منهم خافية .
والثاني : علو قدره فهو كامل الصفات قال تعالى { وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل : 60] ."وصفاته كلها صفات كمال محض فهو موصوف من الصفات بأكملها وله من الكمال أكمله وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها ...فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب أو نقص ...فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات , فلا تعدل عما سمى به نفسه إلى غيره كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون " [بدائع الفوائد 1/178]
الثالث : لا يكون فوقه شيء في قهره وقوته فلا غالب له ولا منازع بل كل شيء تحت قهره وسلطانه .قال الطبري " العلي : يقول ذو العلو على كل شيء , وكل ما دونه فله متذلل منقاد" [تفسير الطبري 21/84] .
قال تعالى :
( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) [الأنعام:18]
، وقد جمع الله في هذه الآية بين علو الذات وعلو القهر .وقال تعالى :
( قُل لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلا ) [الإسراء:42]
فلو كانت هذه آلهة على الحقيقة لنازعوا الحق في عليائه حتى يتحقق مراد الأقوى منهم ويعلو كإله واحد ، وهذا معلوم بدليل التمانع ، أو لو أنه اتخذهم آلهة واصطفاهم لطلبوا قربه والعلو عنده لعلمهم أنه العلي على خلقه .
ومن الآثار لهذا الاسم الشريف : أن يصرف كل عبادة له وحده ويعترف أن عبادة من سواه هي البطلان ,كائنا من كان , قال تعالى :
( ذَلكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِل وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَليُّ الكَبِير ُ) [الحج:62] .
" وإذا كان الملائكة الكرام والمقربين من الخلق يبلغ بهم الخضوع والصعق عند سماع كلامه هذا المبلغ ويقرون كلهم لله أنه لا يقول إلا الحق فما بال هؤلاء المشركين استكبروا عن عبادة من هذا شأنه وعظمة ملكه وسلطانه فتعالى العلي الكبير عن شرك المشركين وإفكهم وكذبهم " [تفسير السعدي]
ومنها : أن يكون ذكرك له وعبادتك إياه على قدر علوه وعظتمته ؛ولذا قرن بين الأمر بالتسبيح وبين علوه فقال {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } قال ابن سعدي "يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته والخضوع لجلاله والاستكانة لعظمته وأن يكون تسبيحا يليق بعظمة الله تعالى بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها العظيم الجليل وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات فسواها أي أتقن وأحسن خلقها " [تفسير السعدي 1/920]
ومنها : أن يعلو قدره في قلبك على قدر استحقاقه وتجعل حبه أعلى هم عندك وأسمى همة لديك "اعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتا وهو القلب ووضع في صدره عرشا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه, والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستو على سرير القلب "
"فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشا للمثل الأعلى أي عرشا لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه . وناهيك بقلب هذا شأنه فيا له من قلب من ربه ما أدناه ومن قربه ما أحظاه فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن بغيره , فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان وسجدت تحت العرش وأبدانهم في فرشهم , فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقا إليه طالبا له محتاجا إليه عاكفا عليه , فحاله كحال المحب الذي غاب عن محبوبه الذي لا غنى له عنه ولا بد له منه , وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النفس والطعام والشراب ,فإذا نام غاب عنه فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه وإلى الشوق الشديد والحب المقلق فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظه [الفوائد 1/178]
ومنها : الخضوع له والتسليم لأمره , والوجل عند ذكره ,وهذا شأن من عرف ربه
ثبت في البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
( إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ في السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ ، قَالُوا لِلذِي قَالَ : الحَقَّ وَهْوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ )
وإذا كانت الملائكة في السماء تخشع عند سماع قوله وتفزع عن إلقاء وحيه كما جاء ذلك في قوله :
( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلوبِهِمْ قَالوا مَاذَا قَال رَبُّكُمْ قَالوا الحَقَّ وَهُوَ العَليُّ الكَبِيرُ ) [سبأ:23]
، إذا كان هذا أمرها وهذا قولها وفعلها ، فحري بالعبد أن يخشع لسماع قوله ، ويطمئن قلبه عند ذكره ، وأن يتذلل بين يدي مولاه ، فيركن إليه ويعتمد عليه ثقة في أنه العلى ولا علي على الإطلاق سواه [أسماء الله الحسنى لمحمود رضوان 5/81].
ومنها : أن تنزه ربك العلي عن كل نقص وإذا سمعت من ينسب له ما لا يليق به سبحانه
فأيقن أن أن قدر الله أعلى وأجل من ذلك ولذا تجد أنه سبحانه إذا حكى قول المشركين الجاهلين به سبحانه أو أخبر عن شركهم عقبها بقوله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنعام : 100] ولك في صالحي الجن أسوة
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن : 3]
ومنها : رفع يديك إليه في الدعاء تذللا ومسكنة , واعترافا منك أنه عالي عليك قدرا
وقدرة , وهذا حال أكثر أدعيته صلى الله عليه وسلم فقد جاء عنه في أكثر من ثمانين موضعا رفع اليدين