مسألة علو الله واستوائه على عرشه: بين المتكلمين وأهل الحديث
مسألة علو الله واستوائه على عرشه
بين المتكلمين وأهل الحديث
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وارضَ اللهمَّ عن ساداتِنا أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعليٍّ.
المعركةُ بين العقلانيِّين وأهلِ الشريعة معركةٌ قديمة جديدة، فكما يُهاجِمُ العَلمانيُّون والليبراليُّون اليومَ الشريعةَ وأهلَها، ويزعمون ويَدَّعون أن الركونَ والاحتكامَ إليها فيه إهانةٌ للعقل، ومَضيعةٌ له، ركب جوادَ العقل قديمًا مبتدعةُ المتكلِّمين، فعندما أنكر بعضُ المُتكلِّمين علوَّ الله تعالى واستواءَه على عرشه، وقالوا: إنه في كلِّ مكان، ردَّ عليهم أهلُ الحديثِ بأدلةٍ دامغةٍ شرعيَّة وعقليَّةٍ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبيِّنين أن الله تعالى بذاته في السماء، مستوٍ على عرشه، بكيفٍ يعلمُه سبحانه، يَتناسَبُ مع جلاله، نؤمن به كما أخبرنا ربُّنا جلَّ وعلا.
أولًا: احتجاجُ أهل الحديث بالقرآن الكريم في إثبات صفة العلوِّ:
يقول أحد الباحثين: "يُنكِرُ أهلُ الكلام صفةَ العلوِّ؛ ولذلك أوَّلُوا جميع الآيات والأحاديث المُثبِتة للفَوقيَّة، وصرفوا معناها إلى علوِّ القدر والمكانة، وفوقيَّة القهر والقدرة، ونحو ذلك من التأويلات المُنافِية لسياق الكلام"[1]، ومن هنا ردَّ أصحابُ الحديث على مبتدعة المتكلِّمين زعمَهم الباطل، واحتجوا عليهم بآياتٍ كثيرةٍ تنقضُ ما زعموه، منها قوله تعالى:
﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75]
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 59]
﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5][2].
ولقد ردَّ أهلُ الحديث على المتكلمين ما يحتجون به بأدلة من القرآن الكريم، فعندما زعموا أن اللهَ تعالى بذاته في كلِّ مكان، واحتجوا بقوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7]
؛ كان ردُّ أصحاب الحديث عليهم أنْ بيَّنوا أن معنى الآيةِ هو أن اللهَ تعالى مع كلِّ نجوَى، ومع كل إنسان بعلمه وبصره، وهو فوق عرشه؛ لأن علمَه مُحيطٌ بالبشر، وبصرَه نافذٌ فيهم؛ وليس معناه أنه تعالى معهم بذاته في الأرض، وعابوا عليهم جهلَهم بالآية، فأخذوا بوسطِها وأغفلوا فاتحتَها وخاتمتَها، فهي قد فُتحت بالعلم ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾ [المجادلة: 7]، وخُتمت بـ ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7]، ومما يُثبِتُ أن المقصود بالآية العلمُ، لا أنه تعالى بذاته في كلِّ مكان، أنَّ آياتٍ قرآنيةً كثيرةً ذكرتْ أن الله تعالى عالٍ مستوٍ على عرشه[3].
ثم احتج المتكلِّمون بقوله تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 84]
لتأكيد زعمِهم أن الله تعالى بذاته في كل مكان؛ فردَّ عليهم المحدِّث ابنُ قُتَيبةَ، مبيِّنًا أن مما يُبطل زعمَهم أن هناك آياتٍ قرآنيةً كثيرةً نصَّتْ على أن الله تعالى على عرشه، وليس هو بذاتِه في كل مكان؛ ثم بيَّن أن معنى الآية هو: أنه تعالى "إلهُ السماء وإلهُ مَن فيها، وأنه إلهُ الأرضِ وإلهُ مَن فيها، ومثالُه كقولنا: "هو بخُراسانَ أميرٌ وبمصرَ أميرٌ؛ فالإمارة تجتمِعُ له فيهما، وهو حالٌّ بأحدَيْهما أو بغيرِهما"[4].
يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "تجدُ أهلَ البدع الذين ينكرون علوَّ الله على مخلوقاته، واستواءَه على عرشه - يتركون هذه النصوصَ، وهي مُحْكَمَةٌ واضحةٌ، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الأعراف: 54]، في سبعة مواضع،
﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]
﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 18]
﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10]
((أين الله؟)) قالت: في السماء[5]، ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الملك: 16]، أَفْرادُ الأدلة التي تدل على علو الله على مخلوقاته تزيدُ على ثلاثة آلاف دليلٍ، وهي واضحة صريحةٌ في أن الله فوق سمواتِه، وأنه استوى على عرشه، ثم يأتي أهلُ البدع، وينكرون علوَّ الله على خلقه، ويستدلون بنصوص المعيَّة ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، قالوا: إن اللهَ مُخْتلط بالمخلوقات، وممتزِجٌ بها، ويتركون العلوَّ والفوقيَّة؛ لمرضٍ في قلوبهم، يضربون النصوصَ بعضها ببعض، ولو وُفِّقوا لعملوا بالنصوص من الجانبين، كما فعل أهل السنة؛ فالمعيَّة لا تُوجِبُ الاختلاطَ، ولا الامتزاج، والمعيَّة في لغة العرب لا تدل على الاختلاط، ولا الامتزاجِ، ولا الوَحْدةِ، تقول العرب: ما زلنا نسيرُ والقمر معنا، والقمر فوقَ رأسِك، هذه معيَّة المعيَّة؛ معناها المصاحبةُ، فهؤلاء تعلَّقوا بنصوص المعيَّة، وأبطلوا بها النصوص الفوقيَّة؛ لمرض في قلوبِهم"[6].
ولقد لجَأ أهلُ الحديث إلى تدبُّر القرآن الكريم، والاستنباط منه؛ كي يردُّوا على مقالات المتكلِّمين، فعندما أنكر الجهميَّة علوَّ الله تعالى واستواءَه على عرشه، ردَّ على زعمهم أبو سعيدٍ عثمانُ الدَّارمي بقوله تعالى عن فرعون:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [غافر: 36، 37]
واستنتج منه أن موسى عليه السلام كان يقولُ لفرعونَ: إن الله تعالى في السماء، وإلا ما أمر فرعونُ هامانَ ببناء الصَّرح له؛ كي يصعدَ ليراه[7]، واحتجَّ عليهم الدارميُّ أيضًا بقوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51]
واستنبطَ الدَّارميُّ من هذه الآية أن فيها إشارةً إلى أن الله عز وجل بائنٌ عن خلقه، فلو كان بذاتِه مع مخلوقاته في كلِّ مكان، ما "كان للحُجُبِ معنًى؛ لأن الذي هو في كل مكان لا يُحجَبُ بشيءٍ من شيء"[8].
ثانيًا: احتجاجُ أهل الحديث بالسُّنة في إثبات صفة العلوِّ:
أكَّدت السنة النبوية أن الله عز وجل في السماء في أكثرَ من حديث، فقد روى التِّرمذيُّ والإمامُ أحمد من حديث الحسن عن عمرانَ بنِ حُصينٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَبِي: ((يا حصينُ، كم تعبدُ اليومَ إلهًا؟))، قال أبي: سبعةً؛ ستة في الأرض، وواحدًا في السماء، قال: ((فأيُّهم تَعُدُّ لرغبتِك ورهبتك؟))، قال: الذي في السَّماء، قال: ((يا حصينُ، أمَا إنك لو أسلمتَ علَّمْتُك كلمتَيْنِ ينفعانِك))، قال: فلمَّا أسلم حصينٌ قال: يا رسولَ الله، علِّمْني الكلمتَيْنِ اللَّتَين وعدتني، قال: ((قل: اللهم أَلْهمْني رشدي، وأَعِذْني من شرِّ نفسي))[9]، فعندما قال حصين رضي الله عنه: "وواحدًا في السماء"، و"الذي في السماء"، لم يُنكِرْ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء؛ بل أقرَّه على ذلك.
وعندما أنكرَتِ الجهميَّة عُلوَّ الله على خلقه ومباينتَه إياهم، وقالوا: إنه في كل مكان بذاته، ردَّ عليهم أبو سعيدٍ عثمانُ الدَّارمي بحديث الجارية، ومُفادُه: أن صحابيًّا ضرب جاريةً له، فنَدِم على فعلِه، وأراد أن يُعتقَها، وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بأمرِها، فقال له: ((ادعُها))، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((أين اللهُ؟))، قالت: في السماء، قال: ((فمَنْ أنا؟))، قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقْها؛ فإنها مؤمنة))[10]، هذا الحديثُ قال فيه الدَّارمي: إنه صريحٌ في أن الله في السماءِ دونَ الأرض، وأن الرجل إذا لم يعلم ذلك، فليس بمؤمنٍ؛ لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جعل أمَارةَ إيمانِ الجارية معرفتَها أن الله تعالى في السماء[11]، واستنتج الدَّارميُّ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((أين اللهُ؟)) أن فيه تكذيبًا لمَن يقول: إن الله في كل مكان، ولا يوُصف بـ(أيْن)؛ "لأن الشيءَ الذي لا يخلو منه مكان يستحيل أن يُقال: أين هو؟ ولا يُقال: "أين" إلا لمَن هو في مكانٍ يخلو منه مكانٌ"، ولو كان الأمرُ على ما يدَّعيه هؤلاء الجهميَّة النُّفاةُ؛ لأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الجارية قولَها: إنه سبحانه في السماء - ردًّا على سؤاله - لكنه صدَّقها، وشَهِد لها بالإيمان، ولو كان اللهُ في السماء والأرض لم يتمَّ إيمانُها حتى تعرفَه في الأرض كما عرَفَتْه في السماء[12]، واستنتاجاتُه هذه صحيحةٌ مُفْحِمةٌ، تدلُّ على بُعْدِ نظرِه، وحسن فهمه في تدبُّر الحديث، وفهم ما فيه من معانٍ.
ثالثًا: احتجاجُ أهل الحديث في إثبات صفة العلو بأدلة عقليَّة مستنبطة من النصوص الشرعيَّة:
لجأ أهلُ الحديث إلى الاستنباط من السُّنة ما يردُّون به على الجهميَّة وغيرهم من الفرق الكلاميَّة، فعندما أنكرَتِ الجهميَّةُ علوَّ الله على خلقه، استدلَّ عليهم أبو سعيد الدَّارمي بحادثة إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم وعُروجِه إلى السموات حتى وصل إلى سِدْرةِ المنتهى فوقَ سبع سموات، واستنبَط منها أنه "لو كان اللهُ في كل مكان - كما زعم هؤلاء - ما كان للإسراء والبُراقِ والمعراج إذًا من معنًى، وإلى مَن يُعرَجُ به إلى السماء وهو بزعمكم الكاذبِ معه في بيتِه في الأرض ليس بينَه وبينَه سِتْرٌ؟"[13].
واحتج عليهم الدارمي أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم:
( إن الله لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يَخفِضُ القِسطَ ويرفعه، يُرفع إليه عملُ الليل قبلَ عمل النهار، وعمل النهارِ قبلَ الليل، حجابُه النور، لو كشفَه لأحرَقَتْ سُبُحاتُ وجهه كلَّ شيء أدرَكَه بصرُه )[14]
، فالحديث ذكَرَ رفعَ الأعمال "فإلى من تُرفع الأعمال، واللهُ - بزعمِكم الكاذبِ - مع العامل بنفسه في بيته ومسجدِه، ومنقلبِه ومثواه؟!"[15]، فدلَّ هذا على أن الله تعالى في السماء.
رابعًا: احتجاجُ أهل الحديث بأقوال السلف من الصحابة والتابعين في إثبات صفة العلوِّ:
احتجَّ المحدِّثون في ردِّهم على مزاعم المتكلِّمين بأقوالِ السلف الأُوَل من الصحابة وتابعيهم من أئمة أهل السنة، وطالَبوهم أيضًا بأن يأتوا بآثار عنهم لدَعْم مزاعمهم ومقالاتهم، حيث تحدَّى أبو سعيدٍ الدارمي الجهميَّةَ عندما ناقشهم في مسألة خلق القرآن، بأن يأتوا بنصٍّ من القرآن، أو من السنة، أو من أقوال السلف، فيه - أي: النص - أن القرآنَ من خلق الله، فقال لهم: "فهاتوا عن أحدٍ منهم منصوصًا أنه خلقُ اللهِ كما ادَّعيتم، وإلا فأنتم المفارقون لجماعةِ المسلمين قديمًا وحديثًا، المُلحدون في آيات الله، المُفْترون على الله وعلى كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تأتوا عن أحدٍ منهم"[16].
ومن أقوال السلف التي احتجَّ بها المُحدِّثون على الجهميَّة في إنكارهم لعلوِّ الله تعالى قولٌ يُروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيه أنه قال: "أيها الناس، إن كان محمدٌ إلهَكم الذي تعبدون، فإن إلهَكم قد مات، وإن كان إلهُكم اللهَ الذي في السماء، فإن إلهَكم لم يَمُتْ"[17]، وموضعُ الاحتجاج هنا هو قوله: "إلهُكم الله الذي في السماء"، وهو صريحٌ بأن الصحابة كانوا يعتقدون أن الله تعالى في السماء.
ومنها أيضًا قولٌ لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما بينَ السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عامٍ، وبينَ كلِّ سماء مسيرة خمسمائة عامٍ، وبينَ السماء السابعة وبين الكرسيِّ خمسمائةِ عام، وبين الكرسيِّ إلى الماءِ خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله تعالى فوق العرش، وهو يعلمُ ما أنتم عليه"[18]، فهذا نصٌّ صريح في علوِّ الله تعالى على خلقه.
وكذلك قولُ عبدالله بن عباس رضي الله عنه لعائشةَ أم المؤمنين رضي الله عنها: "... وأنزل الله براءَتك من فوق سبع سمواتٍ، جاء بها الروح الأمين"[19]، وموضعُ الشاهد على علو الله هو قوله: "من فوقِ سبع سمواتٍ"، مما يعني: أن الصحابة - ومنهم ابن عباس وعائشة؛ إذ لم تُنكِرْ عليه قولَه، وهي المعروفة بمنهجها في قبول الحديث - كانوا يؤمنون بأن الله تعالى بائنٌ عن خلقه، وأنه مستوٍ على عرشه فوقَ سبع سموات، وليس هو بذاتِه في مخلوقاته.
وأيضًا قولُ الفقيه المحدِّث عبدالله بن المبارك في الجهميَّة: "إنا نستجيزُ أن نحكيَ كلامَ اليهود والنصارى، ولا نستجيز أن نحكي كلامَ الجهميَّة"[20]؛ لأن كلامَهم في تعطيل الصفات فيه ما هو أفحش من كلام اليهود والنصارى، وعندما قيل له: كيف ينبغي أن نعرف ربَّنا؟ قال: "على السماء السابعة على عرشِه، ولا نقولُ كما تقول الجهميَّة: إنه ها هنا في الأرض"، وفي رواية "بأنه فوق السماء السابعة على العرش، بائنٌ من خلقِه"[21].
هكذا اتَّضح لنا كيف أن أهل الحديث لم يدَّخروا وُسعًا في استخراج واستنباط الأدلة من الكتاب والسنة في ردِّهم على المتكلِّمين؛ وفي هذا ردٌّ على مَن يُروِّجون أن أهل الحديث هم نصيُّون، ولا مجالَ للعقل عندهم، لا، هم يُعمِلون العقلَ، ولكن في مجالِه فقط، وفيما يطيقُ فقط.
[1] د. سليمان الغصن: موقف المتكلِّمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة (رسالة جامعية): 2/530 - دار العاصمة للنشر والتوزيع -1432هـ - الرياض.
[2] ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص: 251.
[3] نفس المصدر ص: (94، 97)، والدارمي: الرد على الجهمية ص: (42-43).
[4] تأويل مختلف الحديث ص: 252، وما بعدها.
[5] يشير الإمام أحمد هنا إلى حديث الجارية الذي رواه مسلم في صحيحه: 1/381، حديث رقم: (537).
[6] الإمام أحمد: أصول السنة: 1/52.
[7] الدارمي: المصدر السابق ص: 45.
[8] نفس المصدر ص: 73.
[9] عون المعبود: 10/243.
[10] مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت: 1/381، رقم: 537.
[11] الدارمي: الرد على الجهمية ص: (45، 46، 47).
[12] نفسه: ص: 47.
[13] الدارمي: المصدر السابق ص: 67.
[14] رواه مسلم في صحيحه: 1/161، برقم: 179.
[15] الدارمي: الرد على الجهمية ص: 64.
[16] الدارمي: الرد على الجهمية ص: 180.
[17] المصدر السابق: ص: 53.
[18]المصدر السابق: ص: 55.
[19]المصدر السابق: ص: 57.
[20] عبدالله بن أحمد: السنة ص: 13.
[21] المصدر السابق: ص: 13، والدارمي: المصدر السابق ص: 47.