أغلوطة التفويض في صفة الاستواء على العرش


الشيخ/ سلطان العميري

لا يملّ علماء الأشاعرة من تكرار القول بأن مذهبهم موافق لما كان عليه أئمة السلف الأطهار، وتراهم يؤكدون مرة بعد أخرى أن طريقتهم في إثبات الصفات الإلهية لا تختلف عن طريقة السلف ومنهجهم.

وقد حرصوا كثيراً على شرح مذهب أئمة السلف في الصفات، وتجدهم يؤكدون دوماً أنهم كانوا يعتقدون وجوب عدم الأخذ بظواهر نصوص الصفات، وأنهم لم يقرّوا بما تدل عليه من معانيها اللغوية الظاهرة، وأن حال أئمة السلف دائر بين التفويض للمعنى وترك التعرض له والسكوت عن البحث فيه، وبين التأويل وصرف ظواهر النصوص إلى معانٍ أخرى لا تقتضي التشبيه.

ويعد البيهقي من أقدم من نسب التفويض إلى السلف، وأشار إلى أن حالهم دائر بين التأويل والتفويض.

وتبعه إمام الحرمين الجويني، حيث يقول: «اختلفت مسالكُ العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها والتزم هذا المنهج في آي الكتاب وما يصح من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى».

ثم تتابع علماء الأشاعرة جيلاً بعد جيل على تأكيد نسبة هذا المذهب إلى أئمة السلف، وفي التصريح بذلك يقول الشهرستاني: «فأما أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف؛ فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث، مثل مالك بن أنس ومقاتل بن سليمان، وسلكوا طريق السلامة؛ فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعاً أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدره».

ومن الصعب جداً رصد جميع مقالات أئمة المذهب الأشعري التي تتالوا فيها على نسبة مذهب التفويض إلى السلف؛ لكثرة عددها، وفيما ذُكر كفاية في إيضاح المقصود.

نسبة التفويض إلى السلف في صفة الاستواء على العرش:

لا يختلف الحال في صفة الاستواء على العرش عن غيره من الصفات الأخرى، فقد توارد علماء الأشاعرة والمتأثرون بهم على تصوير مذهب أئمة السلف فيها بأنهم يفوضون معناها وأنهم لا يتعرّضون لتفسيرها ولا للبحث في مقصودها، وإنما يجرونها على ما جاء به لفظها فحسب، ويعدّ البيهقي من أقدم من أسس هذا التصور عن أئمة السلف، حيث يقول: «فأما الاستواء، فالمتقدمون من أصحابنا – رضي الله عنهم - كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه، كنحو مذهبهم في أمثال ذلك».

ويقول ابن جماعة بعد أن ذكر الأقوال المتعددة في معنى الاستواء: «واتفق السلف وأهل التأويل على أن ما لا يليق من ذلك بجلال الرب تعالى غير مراد؛ كالقعود والاعتدال، واختلفوا في تعيين ما يليق بجلاله من المعاني المحتملة؛ كالقصد والاستيلاء، فسكت السلف عنه وأوّله المؤولون على الاستيلاء والقهر لتعالي الرب عن سمات الأجسام من الحاجة إلى الحيز والمكان».

وفي بيان موقف أئمة السلف من نصوص الاستواء يقول البيجوري: «إذا ورد في القرآن والسنة ما يشعر بإثبات الجهة والجسمية أو الصورة أو الجوارج، اتفق أهل الحق وغيرهم ما عدا المجسمة والمشبهة على تأويلها».. ثم ذكر أمثلة فقال: «ومنه قوله تعالى: 

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5]

فالسلف يقولون: استواء لا نعلمه، والخلف يقولون: المراد به الاستيلاء والملك».

ومن علماء الأشاعرة من ينسب إلى بعض السلف تأويل صفة الاستواء، وفي هذا يقول الجويني: «ولا يبعد حمل الاستواء على قصد الإله إلى أمر في العرش، وهذا تأويل سفيان الثوري».

ونصوص ومقالات علماء الأشاعرة المتقدمين والمعاصرين في نسبة التفويض والتأويل لصفة الاستواء كثيرة جداً.

منتهى تصوير علماء الأشاعرة لمذهب أئمة السلف:

وحاصل ما ينقله علماء الأشاعرة عن أئمة السلف في صفة الاستواء على العرش، هو أنهم كانوا يعتقدون أن ظواهر نصوص الصفات – ومنها صفة الاستواء – تدل على معانٍ باطلة لا تجوز نسبتها إلى الله تعالى؛ لأنها تقتضي التجسيم والتشبيه؛ ولهذا فإنهم يحرمون الأخذ بما يدل عليه ظاهرها، ويفوضون معناها إلى الله، ويوجبون الإمساك عن البحث في المراد منها، ويلتزمون السكوت عن الخوض فيها، ويعدون كل من بحث فيها أو حدد المقصود منها بما يدل عليه ظاهرها المتبادر؛ منحرفاً عن الجادة وسالكاً سبل التشبيه والتجسيم.

حقيقة موقف أئمة السلف من صفة الاستواء ونصوصها:

قبل أن نصدر الحكم بالصحة والخطأ على ما ينقله علماء الأشاعرة عن أئمة السلف في صفة الاستواء وما يصوّرون به موقفهم من نصوصها؛ لا بد من استعراض ما نقل إلينا عنهم وما وصل إلينا من مقالاتهم ومواقفهم.

ولا بد من التأكيد أولاً على أن أئمة السلف المتقدمين قد اهتموا بصفة الاستواء اهتماماً خاصاً؛ كونها من أكثر وأول الصفات التي أظهر الجهمية فيها الانحراف والتعطيل؛ ولأجل هذا كَثُر كلام السلف فيها جداً، حتى إن عدداً من العلماء أفردوا مؤلفات خاصة في جمع مقالاتهم حول هذه الصفة، وهذا يساعدنا بشكل كبير جداً على تبيّن حقيقة موقفهم من هذه الصفة ومن سائر الصفات الإلهية.

ونحن إذا رجعنا إلى ذلك الكم الكبير الذي وصل إلينا عن السلف في هذه الصفة، نجده يدلّ بوضوح لا خفاء فيه على نقيض ما ينسبه إليهم علماء الأشاعرة من التفويض وترك البحث في معناه والتزام السكوت عن تحديد مدلوله اللغوي والشرعي، ويدل على أنهم كانوا يأخذون بما يدل عليه ظاهرها ويسلّمون به وينافحون عنه.

ويمكن إثبات ذلك بطرق متعددة سنعرض منها أربعة طرق، وهي:

الطريق الأول: تفسير أئمة السلف معنى الاستواء وحمله على الحقيقة اللغوية:

فقد جاءت روايات كثيرة عن عدد كبير من السلف فسَّروا فيها صفة الاستواء بناءً على معناها في اللغة، ودخلوا في بيان مدلولها وأعلنوا فيها التزامهم به ووجوب الأخذ بما يقتضيه من معانٍ.

وقد تنوعت المعاني التي نقلت عنهم في صفة الاستواء على العرش، ومما نقل عنهم أنهم فسَّروها بالعلو والارتفاع والصعود والقعود والاستقرار.

فقد روى البيهقي وغيره عن الفراء أنه قال: «قال ابن عباس «ثم استوى» أي: صعد».

وفي رواية أخرى أن ابن عباس فسر الاستواء بالقعود.

 وروى البخاري تعليقاً على أبي العالية أنه قال: (استوى إلى السماء) ارتفع، وروى عن مجاهد أنه قال: (استوى) علا على العرش.

وروى ابن جرير الطبري عن الربيع ابن أنس: «ثم استوى إلى السماء». يقول: «ارتفع إلى السماء».

وقد كان كثير من السلف يعدّ قوله تعالى في سورة البقرة: 

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]

من الآيات الدالة على صفة العلو الذاتي لله تعالى.

وروى اللالكائي عن بشر بن عمر أنه قال: «سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: 

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥]

ارتفع».

وروى اللالكائي وغيره عن نقطويه قال: حدثني أبو سليمان داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥]؟ فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل. فقال: يا أبا عبد الله، ليس هذا معناه، إنما معناه استولى. قال: اسكت، ما أنت وهذا، لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد فإذا غلب أحدهما قيل استولى.

فقد أقرَّ ابن الأعرابي صحة السؤال عن المعنى وأجاب عليه، ولو كان مذهبه التفويض لأنكر أصل السؤال، ثم إن إنكاره على تعقيب السائل كان لأجل أنه حدد معنى خاطئاً للاستواء، وليس لأنه بحث في أصل المعنى.

وقال الإمام المفسر أبو الفتوح، سليم ابن أيوب الرازي، في تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: قال أبو عبيدة: علا، وقال غيره: استقر، وقال البغوي: «ثم استوى على العرش» قال الكلبي ومقاتل: استقر، وقال أبو عبيدة: صعد.

وهذا الاختلاف بين أئمة التفسير واللغة يدل على أن السلف كانوا يبحثون في معنى الاستواء ولم يكونوا يفوضون المعنى ويسكتون عنه.

وروى اللالكائي عن أبي العباس/ ثعلب أنه قال: «استوى على العرش»: علا، ثم قال: هذا الذي يعرف من كلام العرب.

وقال الأخفش في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: علا، يقال: استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته.

وقال الإمام القصاب في تفسيره: «قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} حجة على الجهمية؛ لأن الاستواء في هذا الموضع هو الاستقرار، فقوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي: استقر عليه».

وينقل ابن تيمية عن ابن المبارك وغيره أنهم فسروا الاستواء بالاستقرار، فيقول: «وقال ابن المبارك ومن تابعه من أهل العلم – وهم كثير - إن معنى استوى على العرش: أي: استقر، وهذا قول القتيبي».

وقال المزني – إمام الشافعية في وقته – في وصف الله تعالى: «السميع البصير العليم الخبير الرفيع عالٍ على عرشه وهو دانٍ بعلمه».

وقال ابن قتيبة في سياق إنكاره على الجهمية: «وكيف يسوغ لأحد أن يقول إنه بكل مكان على الحلول مع قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: استقر، كما قال: 

{فَإذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]

أي: استقررت».

وأما ابن جرير الطبري فإنه فسر جميع المواطن التي جاء فيها ذكر الاستواء على العرش بأنه العلو والارتفاع.

وقال ابن عبد البر في سياق تفسيره لصفة الاستواء: «الاستواء: الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل، وقال: 

{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13]

 ثم ساق بعض النقول عن أئمة اللغة وغيرهم، وابن عبد البر في كلامه السابق يقرّر قاعدة كلية قام عليها مذهب أئمة السلف، وهي أن الله خاطبنا بما نعرف في لغة العرب، فلا بد من فهم كلامه بناءً على ما تقتضيه تلك اللغة.

وقد أكد القرطبي – صاحب التفسير - أن أئمة السلف كانوا يعتقدون أن الاستواء صفة حقيقية، فقال: «ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته» وقال أبو بكر ابن موهب المالكي شارح رسالة ابن أبي زيد في تلخيص معتقد أئمة السلف: «أقروا بصفة الاستواء على عرشه وأنه على الحقيقة لا على المجاز».

هذه بعض التفسيرات المتنوعة التي وردت عن أئمة السلف في تفسير صفة الاستواء على العرش، وهناك غيرها مما لم ينقل، وتواردُ ذلك العدد من المقالات عن الأئمة والعلماء يدل على أن الدخول في تفسير صفة الاستواء ليس قضية خفية في عهد السلف، وإنما هو قضية مشهورة ومنقولة ومتداولة باستفاضة ظاهرة.

ونقلُ أئمة السنة لتلك التفسيرات وروايتهم لها دليلٌ على قبولهم ورضاهم بها، ولو كان تفسير الاستواء بتلك المعاني أمراً منكراً لبادر أئمة السلف إلى إعلان النكير عليه، كما فعلوا مع تفسير الجهمية للاستواء بالاستيلاء، فكون أئمة السلف يتركون الإنكار على ذلك، بل ويبادرون إلى نقلها وروايتها؛ هو دليلٌ على أن مبدأ تفسير نصوص الصفات مقبول لديهم وأنه من صميم منهجهم.

ومع ذلك لا بد من التأكيد على أن بعض علماء أهل السنة خطَّأ بعض تلك التفسيرات، لكن ليس المقصود من هذا البحث تحرير القول في معاني الاستواء المنقولة عن السلف ولا تفصيل القول فيها، وإنما المقصود منها إثبات أن السلف لم يسكتوا عن نصوص الاستواء ولم ينهوا عن الدخول في بحث معناها، ولم يكونوا مفوضة لمعانيها كما يصور علماء الأشاعرة، بل كانوا على النقيض من ذلك.

ومما يدل على أن تلك التفسيرات مناقضة للتفويض: أن علماء الأشاعرة أنفسهم حكموا على ما ورد عن السلف من تفسير صفة الاستواء بأنه تشبيه وتجسيم، فقد حكم الرازي باستحالة تفسير الاستواء في حق الله بالاستقرار والعلو والجلوس، وفي هذا يقول: «لا يمكن حمل قوله «ثم استوى على العرش» على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز» وفي سياق حديثه عن مقتضيات مذهب التفويض ذكر منها: إنه لا يجوز تبديل لفظ من الألفاظ المتشابهة بلفظ آخر، «وإنه يجب الاحتراز عن التصريف فيها، فإذا ورد قولنا «استوى» فلا ينبغي أن نقول: إنه مستوٍ؛ لما ثبت في البيان أن اسم الفاعل يدل على كون المشتق منه متمكناً ثبتاً مستقراً» فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون السلف مفوضة وهم قد فسروا لفظ الاستواء بألفاظ متعددة وتصرفوا في اللفظ بطرق مختلفة؟!

وقال ابن جماعة: «قوله تعالى {اسْتَوَى} يتعيّن فيه معنى الاستيلاء والقهر، لا القعود والاستقرار؛ إذ لو كان وجوده تعالى مكانياً أو زمانياً للزم قدم الزمان والمكان».

 وأما الآمدي فإنه بعد أن ذكر قول من جعل مستنده في إثبات الصفات النصوص الشرعية وسرد عدداً منها، قال: «وفي الاستواء قوله تعالى «ثم استوى على العرش» وإلى غير ذلك من الآيات، واعلم أن هذه الظواهر – وإن وقع الاغترار بها بحيث يقال بمدلولها اللغوي والعرف الاصطلاحي – فذلك لا محالة انخراط في سلك التجسيم ودخول في طرف دائرة التشبيه» وقال أبو العباس القرطبي في سياق حديثه عن مذاهب الأمة في الصفات الإلهية: «وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة، وهذا قول المشبهة».

وأما ابن جهبل فإنه وصف كل من فسر الاستواء بالفوقية والاستقرار والجلوس، بأنه مشبه مجسم خارج عن السنة.

وقال ابن التلمساني: «ذهبت الحشوية والكرامية إلى أن الباري تعالى مختص بجهة فوق.. والحشوية حملت الاستواء على ظاهره، وامتنعت عن التأويل».

وذكر السبكي – الأب - أن الاستواء في اللغة له معنيان، وقال بعد أن ذكر المعنى الأول: «والمعنى الثاني للاستواء في اللغة: الجلوس والقعود، ومعناه مفهوم من صفات الأجسام، لا يعقل منه في اللغة غير ذلك، والله منزه عنها» وقال السبكي بعد أن ذكر استعمال ابن القيم للألفاظ التي استعملها أئمة السلف؛ كالقول بأن الله فوق السماء وأنه بائن من خلقه وأنه فوق العرش وأن القدمين فوق الكرسي وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقعده الله معه على العرش؛ قال: «وهكذا أكثر ما ذكره لم يجيء لفظه في قرآن ولا سنة، بل هو زيادة قد كذب فيها على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهمها على الحق، ونسب إلى علماء المسلمين البرآء من السوء كل قبيح» مع أن ابن القيم لم يذكر شيئاً من ذلك إلا نقلاً عن أئمة السلف!

وقال الحصني الدمشقي: «من جعل الاستواء بمعنى الاستقرار والتمكن فقد ساوى بينه وبين خلقه».

وحين شرع ابن خلدون في شرح منهج أبي الحسن الأشعري وأتباعه قال: «وأما لفظ الاستواء والمجيء والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه».

وقال الكوثري: «الاستواء لم يذكر في تلك الآيات إلا بصيغة الفعل المقرون بأداة التراخي، ومن قال: إنه مستوٍ نطق بما لم يأذن به الله كائناً من كان، ومن زاد وقال: استوى بذاته بمعنى استقر، فهو عابد وثن خيالي، إن لم يكن عامياً».

وقد اعترض علماء الأشاعرة على ابن تيمية في مواطن متعددة في العقيدة الواسطية، ومنها: أن بعضهم قال: نقر باللفظ القرآني كما هو، ولا نقول الله على العرش استوى ولا نقول مستوٍ، بحيث يقال اللفظ بعينه ولا يبدل بلفظ يرادفه ولا يفهم منه معنى، وقالوا لابن تيمية: «قولك حق على حقيقته، الحقيقة هي المعنى اللغوي، ولا يفهم من الحقيقة اللغوية إلا استواء الأجسام وفوقيّتها، ولم تضع العرب ذلك إلا لها، فإثبات الحقيقة هو محض التجسيم».

وهذه المقالات والمواقف من علماء الأشاعرة تدل على أن إثبات المعاني اللغوية للاستواء وذكر مرادفاتها في اللغة والتصرف في اللفظ – وكل ذلك وارد عن أئمة السلف -؛ يعد أمراً مناقضاً للتفويض؛ ولهذا حكموا عليه بالتشبيه والتجسيم.

ونتيجة هذا التقرير تؤكد أن ما ينقله علماء المذهب الأشعري عن أئمة السلف من أنهم كانوا يفوضون فيها المعنى ولا يبحثون عنه وينهون عن السؤال عنه والحديث فيه؛ غير صحيح، بل هو متناقض مع حالهم تمام التناقض.

الطريق الثاني: استعمال أئمة السلف ما يدل على أنهم يثبتون استواءً ذاتياً حقيقياً:

ومما يدل على أن أئمة السلف لم يكونوا مفوضة في صفة الاستواء، ولم يمنعوا من الدخول في معناها ومدلولها، وأنهم كانوا يعتقدونها صفة حقيقية قائمة بذات الله، وأنها تعني العلو والارتفاع الحقيقي على العرش؛ أنهم كانوا يؤكدون كثيراً أن استواء الله على العرش يكون بذاته وبنفسه، وأنه في استوائه على العرش بائن من خلقه، فهذه التقييدات والتوضيحات تدل على أنهم يؤمنون بأن استواء الله على عرشه استواء حقيقي ذاتي.

ومقالات أئمة السلف التي استعملوا فيها تلك الألفاظ كثيرة جداً، وقد وردت عن أكثر من عشرين منهم نصاً، ومن ذلك:

ما رواه ابن أبي حاتم أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن - قاضي الري - حبس رجلاً في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة. فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب».

وروى عن يحيى بن معاذ أنه قال: «إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً».

وروي عن عبدالله بن أبي جعفر الرازي أنه كان يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرمي برأي جهم ويقول: «لا حتى تقول «الرحمن على العرش استوى» بائن من خلقه».

وعن علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك قال: قيل له كيف نعرف ربنا؟! قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه».

ويقول ابن أبي شيبة: «توفرت الأخبار على أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته، ثم خلق الأرض والسموات، فصار من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى العرش، فهو فوق السموات وفوق العرش بذاته».

وقال يوسف بن موسى القطان: «قيل لأبي عبدالله: الله فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه وقدرته بكل مكان؟! قال: نعم».

وقال الدارمي: «الآثار التي جاءت عن رسول الله في نزول الرب تبارك وتعالى تدل على أن الله عز وجل فوق السموات على عرشه بائن من خلقه».

وقال ابن خزيمة: «من لم يقرّ بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سمواته، بائن من خلقه؛ فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه».

وأما أبو القاسم الطبراني فإنه عقد باباً خاصاً في كتابه «السنة» قال فيه: «باب ما جاء في استواء الله على عرشه وأنه بائن من خلقه».

وقال ابن أبي زيد المالكي في رسالته الشهيرة: «وإنه فوق عرشه المجيد بذاته، وعلمه في كل مكان».

واستعمال هذه الألفاظ مشتهر جداً عند السلف حتى قال أبو نصر السجزي: «وأئمتنا: الثوري ومالك وابن عيينة وحماد ابن سلمة وحماد بن زيد وعبدالله ابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق؛ متفقون على أن الله فوق عرشه بذاته، وأن علمه بكل مكان».

بل إن بعض أئمة أهل السنة نقل إجماع أئمة السلف على استعمال هذه الألفاظ، فقد قال عبدالرحمن ابن أبي حاتم: «سألت أبا حاتم وأبا زرعة الرازيين رحمهما الله عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً، وكان من مذهبهم: أن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً» وقال أبو عمرو الطلمنكي: «أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على العرش بذاته».

والغريب حقاً أنه مع تلك الكثرة والاستفاضة والإجماع المنقول ينكر ابن الجوزي استعمال السلف للفظ «بذاته»، حيث يقول: «ولم يقل السلف: تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء، ولا قالوا: استوى على العرش بذاته، ولا قالوا: ينزل بذاته، بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة».

وتلك التصريحات المستفيضة من أئمة السلف تدل على أنهم كانوا مدركين معنى الاستواء في حق الله تعالى، فقد كانوا يقصدون بها تأكيد المعنى الحقيقي الذاتي للاستواء، ومما يدل على ذلك أن أئمة السلف إنما استعملوا تلك الألفاظ – مع عدم ورودها في نصوص الشريعة – من أجل الرد على الجهمية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان، فعبّروا بتلك الألفاظ ليكشفوا عن حقيقة إيمانهم المناقض لما تقول به الجهمية في صفة العلو والاستواء.

فتلك الألفاظ إذن دالة بالضرورة على أن أئمة السلف لم يكونوا مفوضة ولم يكن حالهم هو السكوت وترك البحث في معنى الاستواء.

ومما يدل على ذلك ويؤكده أن عدداً من علماء الأشاعرة عدّوا استعمال تلك الألفاظ تشبيهاً وتجسيماً، فقد قال ابن الجوزي: «وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس، فقالوا: استوى على العرش بذاته، وهذه زيادة لم ينقلوها، وإنما فهموها من إحساسهم» وقال ابن جماعة: «فمن جعل الاستواء في حقه تعالى ما يفهم من صفات المحدثين، وقال: استوى بذاته، أو قال: استوى حقيقة؛ فقد ابتدع بهذه الزيادة» وقال الحصني الدمشقي: «وزاد بعضهم استوى على العرش بذاته، فزاد هذه الزيادة، وهي جرأة على الله بما لم يقل».

فهذه المقالات إقرار من علماء الأشاعرة بأن من يستعمل تلك الألفاظ – التي توارد أئمة السلف على استعمالها – لا يكون مفوضاً أبداً، فكيف ينسبون مع ذلك التفويض إلى السلف؟! أليس في ذلك تناقض ظاهر وبيّن؟!

ولا بد من التأكيد هنا على أن بعض علماء أهل السنة والجماعة المتأخرين – كالإمام الذهبي – كان يفضّل ترك استعمال لفظة «بذاته وبائن ونحوها» لكن سبب ذلك منحصر في عدم ورودها في النص فقط، وليس له علاقة بقضية تفويض المعنى كما يريد أن يصوره بعض الأشاعرة المعاصرين.

الطريق الثالث: تحدث السلف عن قضية الحد لله نفياً وإثباتاً:

تعدُّ قضية الموقف من إثبات الحد لله من القضايا الدقيقة، وقد خاض فيها السلف بعد أن صرح الجهمية في زمنهم بإنكار الحد لله، ويقصدون به إنكار صفة العلو الذاتي والاستواء. واستعمل أئمة السلف لفظ الحد في قضية الاستواء والعلو والنزول، وقد اختلفت طرائقهم وأنظارهم في الموقف من الحد إثباتاً ونفياً، فمنهم من أثبت الحد لله، ومنهم من نفاه، ومنهم من ورد عنه النفي والإثبات، فممّن أثبت الحد لله: عبدالله ابن المبارك، وعبدالله ابن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبدالله ابن الإمام أحمد، وغيرهم كثير.

وممّن روي عنه إنكار الحد: الإمام أحمد في رواية عنه، والإمام أبي حنيفة، وأبو نصر السجزي، وغيرهم.

وهذا التنوع عنهم في الموقف من الحد إثباتاً ونفياً ليس اختلافاً حقيقياً، وإنما هو اختلاف تنوع بحسب المقصود من الحد والمراد منه، فالحد يطلق ويراد به عدة معانٍ، بعضها صحيح وبعضها باطل، فإن قصد بالحد الإحاطة بالشيء علماً وإدراكاً، فهذا المعنى باطل في حق الله، وعليه يحمل كلام من نفى الحد من السلف، وإن قصد بالحد تميّز الشيء عن غيره وانفصاله عنه وعدم اختلاطه به، فهو معنى ثابت لله، وهو المقصود بصفة العلو والاستواء على العرش، وعليه يُحمل كلام من أثبت الحد لله من السلف، وفي تلخيص هذين المعنيين يقول ابن أبي العز: «ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه، ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه.. فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته.. وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة».

ودخول السلف في قضية الحد نفياً وإثباتاً دليلٌ أكيد على أنهم لم يكونوا مفوضة في صفة الاستواء على العرش ولا غيرها؛ لأن ذلك الدخول يدل على أنهم تجاوزوا مجرد الوقوف على لفظ النص والسكوت عن البحث في معناه إلى البحث في مقتضيات إدراك المعنى وفهمه، ولأجل ذلك أمكنهم أن يتحدثوا في قضية الحد نفياً وإثباتاً.

ومما يدل على أن إثبات الحد في صفة الاستواء مناقض للتفويض: أن بعض علماء الأشاعرة بادر إلى تأويل الروايات التي نقلت عن السلف في هذه القضية، ولهذا فإن البيهقي حين أورد قول المبارك الذي جاء فيه إثبات الحد، أوّله بمعنى بعيد جداً عن مدلول السياق، فقال: «إنما أراد عبدالله بالحد حد السمع، وهو أن خبر الصادق ورد بأنه على العرش استوى، فهو على عرشه كما أخبر، وقصد بذلك تكذيب الجهمية فيما زعموا أنه في كل مكان» وهذا التصرف من البيهقي يدل على أنه مدرك بأن ما روي عن أئمة السلف في إثبات الحد لله يتناقض مع التفويض الذي ينسبه إليهم.

وحين تعرض الكوثري لكتاب «إثبات الحد لله، وبأنه قاعد وجالس على العرش»، الذي نقل فيه مؤلفه كلام أئمة السلف في إثبات الحد لله وفي صفة الاستواء على العرش؛ ذمه ذماً شديداً بحجة أنه قرر ما يثبت التجسيم والتشبيه في حق الله تعالى، فكيف يكون أئمة السلف مع ذلك مفوضة في صفة الاستواء؟!

الطريق الرابع: موقف السلف من قضية إقعاد النبي عليه الصلاة والسلام على العرش:

وردت أحاديث متعددة جاء فيها إثبات إقعاد الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش، لكن كل الأحاديث المرفوعة في هذه القضية موضوعة ومع ذلك فقد صح عن مجاهد أنه قال في تفسير قوله تعالى: «عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً»، قال: «يجلسه معه على العرش».

وقد أنكر الجهمية هذه الفضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر المروزي بتأليف كتاب جمع فيه فتاوى أئمة السلف الذين أيّدوا مجاهد في إثباته تلك الفضيلة، وممن أفتاه في ذلك: «أبو داود صاحب السنن، وعبدالله ابن الإمام أحمد، وإبراهيم الحربي، ويحيى بن أبي طالب، وأبو جعفر الدقيقي، ومحمد ابن إسماعيل السلمي الترمذي، وعباس بن محمد الدوري، ومحمد بن بشر بن شريك بن عبدالله النخعي».

وأفتاه أيضاً: «أبو قلابة عبدالملك بن محمد الرقاشي، وأبو بكر بن حماد المقري، وعلي ابن داود القنطري، ومحمد بن عمران الفارسي الزاهد، وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي، ومحمد بن يونس البصري، وأحمد بن أصرم المزني، ومحمدان بن علي، وأبو بكر بن صدقة، وعلي بن سهل، والحسن بن الفضل، وهارون بن العباس الهاشمي، وأبو عبدالله بن عبدالنور، وإبراهيم الأصبهاني.

وكذلك أفتى من الأئمة قبل هذه الطبقة إسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ومحمد بن مصعب العابد، وبشر الحافي، وهارون بن معروف، وجماعة غيرهم من أئمة الحديث والفقه يطول ذكرهم، اختصرت نصوص قولهم، لكنهم يقولون ما معناه إن هذا الخبر يسلم كما جاء، ولا يعارض – يعني خبر مجاهد»

وليس المقصود من هذه الورقة تحقيق القول في هذه القضية، وإنما المقصود منها إثبات أن عدداً كبيراً من أئمة السلف المشهورين خاضوا في هذه القضية وصرحوا بإثباتها والأخذ بها، وجعلوا ذلك فاصلاً بينهم وبين الجهمية، وهذا يدل بالضرورة على أنهم لم يكونوا مفوضة في صفة الاستواء؛ إذ لو كانوا كذلك لما خاضوا في هذه المسألة ولما صرحوا بها؛ لأن إثبات هذه الفضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتصور إلا مع تصور معنى الاستواء على العرش والقعود عليه.

ومما يدل على أن هذا الإثبات مناقض للتفويض: أن عدداً من أئمة المذهب الأشعري أنكروا قضية إقعاد الله النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، بحجة أن ذلك تشبيه وتجسيم وقد صرح ابن فورك بأنه لا يأخذ بأثر مجاهد وأنه يجب تأويله على معنى النصرة والتأييد.

وهذا إقرار ضمني من علماء الأشاعرة بأن أولئك الأئمة من السلف لم يكونوا مفوضة في صفة الاستواء على العرش، بل كانوا يستعملون ألفاظاً ظاهرة في الإثبات وفي العلم بالمعنى، ولهذا اضطروا إلى تأويل ما جاء عنهم.

ولا بد من التأكيد هنا على أن من أهل السنة من أنكر قضية إقعاد الله النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، لكن إنكاره راجع إلى أن هذه القضية لم تثبت في النصوص، وإلى أن ذلك مخالف للنصوص الصريحة الصحيحة في تفسير المقام المحمود وليس راجعاً إلى أن ذلك يقتضي التشبيه والتجسيم كما يقول علماء الأشاعرة.

فهذه الطرق الأربعة مفردة ومجتمعة تدل دلالة قوية ظاهرة على أن أئمة السلف لم يكونوا مفوضة في صفة الاستواء، وأنه لم يكن من منهجهم السكوت عن البحث في معاني النصوص الشرعية الواردة في تلك الصفات ولا ترك الحديث عن مقتضياتها؛ وإنما كانوا على النقيض من ذلك، فقد فسروا صفة الاستواء وحددوا معناها وتكلموا في المراد منها، مع تأكيدهم على عدم إدراكهم كيفيّتها، واستعملوا العبارات والمقالات الدالة على أنهم يؤمنون باستواء حقيقي ذاتي قائم بالله تعالى.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ أغلوطة التفويض في صفة الاستواء على العرش

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day