خطبة بعنوان: (مدبر) الأمر هو الله
الخطبة الأولى ( مُدَبِّرُ الْأَمْرَ هو اللَّهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون يقول الله تعالى في محكم آياته : (
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (3) يونس
وقال الله تعالى :
(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (31) ،(32) يونس
وقال الله تعالى :
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (2) الرعد
وقال الله تعالى :
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (5) :(7) السجدة
إخوة الإسلام إن من أركان الإيمان الستة ، الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره ، فالمؤمن يعتقد أن الله تعالى يدبر الأمر كله ، وتدبير الأمر يعم تقديره وتسهيله وإنفاذه على أحسن حال وأحمده عاقبة . قال البيضاوي: يدبر الأمر ـ يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، ويهيئ بتحريكه أسبابها وينزلها منه، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة وقال ابن كثير: يدبر الأمر ـ أي: يدبر أمر الخلائق، قال الله تعالى :
(لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) سبأ (3)
ومدبر الأمر لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلظه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير، في الجبال والبحار والعمران والقفار، قال الله تعالى :
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) هود (6)
وقال الله تعالى :
(وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) الانعام (59)
وإذا علم المؤمن أن الله يدبر أمره كله، فلم الحزن والقلق ؟؟ ، ولم الخوف والاضطراب ؟؟ فها هو نبي الله إبراهيم عليه السلام ، يوقن أن مدبر الامر هو الله ، وهو سبحانه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فيُرمى به في وسطِ النار ، فلم تتزعزع عقيدته في أن الله يدبر الأمر، فيقول : (حسبنا الله ونعم الوكيل)
ويحاصرُ المشركون مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق.. وها هي القلوبُ في وجل.. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشِّر أصحابه بكنوزِ كسرى وقيصر ، إنه التوكُّل على الله ، والثقة بمن يقول للشيءٍ كنْ فيكون .. إنه مدبِّرُ الأمر كله .
ويصل سيدنا موسى عليه السَّلام إلى البحرَ.. وها هو فرعون وجنوده من ورائه .. ويخاف بنو إسرائيل أن يدْركَهم فرعون وجيشُه .. فيقول لهم موسى عليه السلام ، واثقاً بالله ، متوكِّلاً عليه .، مؤمنا بأنه يدبر الأمر كله : قال تعالى :
(فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الشعراء (61):(67)
ويلتقمُ الحوتُ سيدنا يونس عليه السلام.. فيقول متوكلا على الله مدبر الأمر : قال الله تعالى :
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الأنبياء(87)، (88)
هكذا يستجيب الله دعاءه ، ويفرج همه وكربه ، لأنه سبحانه مدبر الأمر كله .
فلو كنت تعلم أخي المسلم كيف يدبر الله لك أمرك ، لازددت له حبا ، وتقول دائما : يا مدبر الأمور دبر لي أمري فإني لا أحسن التدبير . ولذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :
(اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) رواه أبو داود
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مُدَبِّرُ الْأَمْرَ هو اللَّهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون جاء في الأثر: قال داود عليه السلام : ” رب : أي عبادك أبغض إليك” ؟ قال: عبد استخارني في أمر فاخترت له فلم يرض به . وروى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ».
وفي حكاية يرويها لنا الشيخ علي الطنطاوي ،يقول الشيخ : كنت قاضيا في الشام ،وذهبنا في المساء عند أحد الأصدقاء ، فشعرت بضيق نفس ، واختناق شديد ، فاستأذنت أصدقائي للرحيل ، فأصروا على أن أتم السهرة معهم ، ولكني لم أستطع ، وقلت لهم : أريد أن أتمشى لأستنشق هواء نقياً فخرجت أمشي وحدي في الظلام ، وبينما أنا كذلك ، إذ سمعت بكاء ونحيبا وابتهالا ، آت من خلف تلة قال : فنظرت فوجدت امرأة تبدو عليها مظاهر البؤس ، وكانت تبكي بحرقة ، وتدعو الله اقتربت منها ، وقلت لها: (ما الذي يبكيك يا أختي) قالت : (إن زوجي رجل قاسٍ وظالم ،طردني من البيت ،وأخذ أبنائي ،وأقسم أن لا أراهم يوماً ، وأنا ليس لي أحد ، ولا مكان أذهب له) قال الشيخ : فقلت لها: (ولماذا لا ترفعين أمرك للقاضي؟) فبكت كثيراً وقالت: (كيف لامرأة مثلي أن تصل للقاضي؟) يقول الشيخ وهو يبكي: ( والمرأة تقول هذا ، وهي لا تعلم أن الله قد جر القاضي (يقصد نفسه) من رقبته ليُحضرهُ إليها ) فسبحان مدبر الأمر ، سبحان من أمره بالخروج في ظلمة الليل ، ليقف أمامها بقدميه، ويسألها هو بنفسه عن حاجتها ، إنه من يعلم السر وأخفى سبحان مدبر الأمر ، سبحان العليم بخلقه ، اللطيف بهم ، فهو يسمع دعاءهم وشكواهم ، ويفرج كروبهم وهمومهم ، فيامن تشعر بالبؤس والضيق، ويامن تشعر بالظلم ، ويامن تظن أن الدنيا قد أظلمت في وجهك ، فقط .. أرفع يديك إلى السماء ، وتضرع لمن يسمع الدعاء ، ويرى دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء
فكونوا أيها المؤمنون على يقين أن الله يدبر الأمر ، ويأتي الفرج بعد الضيق ، واليسر بعد العسر قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) الشرح 5، 6