الآثار الإيمانية لأسماء العليم – العالم – العلام
1) إثبات العلم التام الكامل الشامل لله وحده، ولا يشابهه أحد من مخلوقاته في كمال علمه:
وقد أثبت الله عز وجل لنفسه العلم الكامل الشامل في آيات كثيرة منها قوله تعالى
( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا )
( وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا )
( وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) [الطَّلاق: 12]
ففي هذه الآيات إثبات علمه بكل شيء من الأشياء، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، كما قال سبحانه
( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [الأنعام: 59]
( وقال وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) [الجنّ: 28].
وقد أنكر بعض الفلاسفة ومن تابعهم كابن سينا علمه تعالى بالجزيئات، فقالوا إنه يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي، وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) بقوله: وهذا مما يبين لك أن من قال من المتفلسفة إنه سبحانه يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي، فحقيقة قوله إنه لم يعلم شيئاً من الموجودات، فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي، والكليات إنما تكون في العالم، لاسيما وهم يقولون: إنما علم الأشياء لأنه مبدؤها وسببها، والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية، كالأفلاك المعينة والعقول المعينة، وأول الصادرات عنه – على أصلهم – العقل الأول، وهو معين، فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا؟ .
وبين العلامة المحقق ابن القيم أن (الحمد لله) تتضمن الرد على منكري علمه تعالى بالجزئيات، قال: وذلك من وجوه:
أحدهما: كمال حمده، وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئاً من العالم وأحواله وتفاصيله، ولا عدد الأفلاك، ولا عدد النجوم، ولا من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدعوه ممن لا يدعوه؟
الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلهاً، وأن يكون رباً فلابد للإله المعبود، والرب المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله.
الثالث: من إثبات رحمته، فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه، فإن ملكاً لا يعرف أحداً من رعيته ألبته ولا شيئاً من أحوال مملكته ألبته، ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعاناً.
السادس: كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هادياً.
الثامن: كونه منعماً.
التاسع: كونه غضباناً على من خالفه.
العاشر: كونه مجازياً، يدين الناس بأعمالهم يوم الدين.
فنفي علمه بالجزئيات مبطل لذلك كله .
وكيف لا يحيط تعالى علماً بكل شيء وهو قد خلق كل شيء
( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) [الملك: 14]
فقبح الله من رمى ربه بالجهل وعدم العلم وهو يأنف أن يوصف بشيء من ذلك.
2) أن الله سبحانه لكمال علمه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أي أنه سبحانه يعلم الأمور الماضية التي وقعت، والأمور المستقبلية التي لم تقع بعد، ويعلم الأمور التي لن تقع لو فرض أنها تقع كيف تقع، وهذا من كمال علمه بالغيب وعواقب الأمور، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
قوله تعالى:
( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) [القمر: 49]
وقوله تعالى لإبليس عليه لعنة الله
( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) [ص: 85]
وهو خبر عن المستقبل.
وقوله تعالي
( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) [الصافات: 171-173]
وقوله تعالى
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحج: 70]
وقوله
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20]
أي علم الله أنكم لن تستطيعوا القيام بما أمركم به من قيام الليل، لأنه سيكون منكم مرضى وآخرون يجاهدون في سبيل الله وآخرون مسافرون في الأرض يبتغون فضل الله في المكاسب فقوموا من الليل بما يتيسر.
وقوله تعالى
فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 27]
وقوله سبحانه
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22]
أي: ما تقع من مصيبة في الأرض من قحط أو طوفان أو صاعقة وغير ذلك، وَلا فِي أَنفُسِكُمْ أي: من الأمراض والمصائب والبلاء، إلا كان ذلك مكتوباً في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلق الخليقة، ونبرأ النسمة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء))
3) وقد خالف في ذلك القدرية – قبحهم الله – فقالوا إن الله لا يعلم الأمر قبل وقوعه وإنما يعلمه بعد وقوعه، وقد حدث القول بهذا في أواخر عصر الصحابة، فقد جاء عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف. قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر... .
ومعنى قول القدرية أن الأمر أنف أي مستأنف لم يسبق به قدر، ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه، أي أن الله أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك، فعلمه بعد ما فعلوه .
4) أن الخلق لا يحيطون علماً بالخالق، أي لا يعلمون شيئا من ذاته وصفاته إلا ما أطلعهم الله سبحانه عليه، عن طريق رسله وكتبه المنزلة. قال تعالى
( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) [البقرة: 255]
وقال تعالى ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) [طه: 110]
5) وعلى وجه أعم، أنهم لا يعلمون شيئاً من المعلومات، إلا بتعليم الله لهم، فكل علم شرعي وقدري فمرجعه إلى الله العليم الحكيم، كما قالت الملائكة
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ [البقرة: 32]
وقال عز وجل
وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]
وقال
وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة: 31].
وقال مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم
( وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) [النساء: 113]
وقال عن يوسف صلى الله عليه وسلم ( رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) [يوسف: 101]
وقال عن داود صلى الله عليه وسلم ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ) [الأنبياء: 80]
وعن الخضر صلى الله عليه وسلم ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) [الكهف: 65]
وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين أن أصل ومنشأ كل علم إنما هو من الله جل ثناؤه سواء كان شرعياً أو دنيوياً.
6) قلة ما بأيدينا من العلم بالنسبة لعلم الله تعالى:
ومع كثرة المعلومات التي تعلمها بنو آدم وتشعبها، إلا أنها قليلة جداً بالنسبة لعلم الله تعالى الواسع، قال سبحانه
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]
وفي قصة الخضر مع موسى عليهما الصلاة والسلام: ((فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين. قال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر...)) .
7) الفرق بين علم الخالق وعلم المخلوق:
علم الله جل ثناؤه لا يعتريه نقص أبداً، من نسيان أو جهل، أو علم ببعض أمور الخلق وجهل بغيرها.
قال تعالى ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) [مريم: 64]
وقال تعالى ( وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [يس: 79]
وهو سبحانه لا يشغله علم عن علم، كما لا يشغله سمع عن سمع، وأني للمخلوق مثل هذه الصفات، فهم يولدون جهلة لا يعلمون شيئا، ثم يتعلمون شيئا فشيئا، قال تعالى
وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78]
فعلمهم قد سبقه الجهل، والله سبحانه كان ومازال عليماً لم يسبق علمه جهل، ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، كما تقوله المبتدعة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
واقرأ معي ما يقوله الخطابي رحمه الله عن علم الخلق. يقول: والآدميون – وإن كانوا يوصفون بالعلم – فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات، دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل، ويعقب ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالماً بالفقه غير عالم بالنحو، وعالماً بهما غير عالم بالحساب والطب ونحوهما من الأمور، وعلم الله سبحانه علم حقيقة وكمال،
( قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) [الطَّلاق: 12]
( وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) [الجن: 28]
8) اختص الله نفسه سبحانه بعلوم الغيب. قال سبحانه
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59]
وقال
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ [النمل: 65]
وذكر منها خمسة في قوله تعالى
إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]
قال الألوسي رحمه الله: وما في الإخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر، إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه إلا الله تعالى
فعلم الغيب لا شك أنه أعظم وأوسع من أن يحصر في هذا الخمس فقط.
ومن زعم أن أحداً يعلم الغيب غير الله سبحانه فقد كفر بالآيات السابقة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ومن زعم أنه (تعني النبي صلى الله عليه وسلم) يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول:
( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [النمل:65].