اسم الله (البارئ)


ملتقى الخطباء

الخطبة الأولى:

الحمد لله الخالق البارئ المصور، برأ الخليقة وأوجدها، وأبدعها على غير مثال سابق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب كل شيء ومليكه، لا رب غيره ولا إله سواه،

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) [الزخرف: 84]

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبيَاء: 22]

وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- بالتقوى، استمسكوا بها فهي عروة دينكم الوثقى، وبادروا قبل أن تُبَادروا، وإياكم والنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظروا إلى عظمة من عصيتم، إنه الله الجليل الأكبر، الخالق البارئ والمصوِّر، باري البرايا منشئ الخلائق، مبدعهم بلا مثالٍ سابق، الأول المبدي بلا ابتداء، والآخر الباقي بلا انتهاء، الأحد الفرد القدير الأزلي، الصَّمد البرُّ المهيمن العلي، سبحانه تفرد بعلو القَهْر وعلو الشأن، جلَّ عن الأضداد والأعوان، وكل من نظر إلى عظمة الله وجلاله؛ عظَّم حُرُماته، وَقَدَره قَدْرَه، وأجَلَّ أمره ونهيه، وعَظُم عليه ذنبه ولو كان صغيرًا.

فسبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته, سبحان ربنا اتصف بكل جمال وكمال وعظمة, خالق الخلق ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، موصوف بكل كمال وجلال، وكل عظمة وعلو مقام، سبحانه تفرد بالكبرياء الذي لا يُنال، له المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.

انظر في نفسك -يا عبد الله- وتبصر في مبدأ خلقك، كيف أخرج البارئ الخالق -سبحانه- من بين الصلب والترائب الماءَ الدافق، وهو نطفة من ماء مهين، ثم جمعها في الرحم في قرار مكين، ثم صرّف تلك النطفة طورًا بعد طورٍ، وطبقًا بعد طبق، حتى كمل في الظلمات الخلق، ثم تأمل كيف انقلبت تلك النطفة الضعيفة المهينة؛ إلى العظام الصلبة المتينة، فجعل الله تعالى منها الرأس، وهو أشرف الأعضاء، وصانه بأنواع من الصيانات التي تدفع عنه الآفات والأدواء، وشق فيه البصر والسمع، وربطهما بالقلب ليعقل بهما خطاب الشرع.

وتأمل كيف حفظ الرب تعالى للإنسان حاسة السمع والبصر والكلام، من مؤذيات الدواب والهوام، فجعل داخل منفذ السمع مُرًّا قاتلاً غير مستساغ؛ لئلا تلج فيها دابة مؤذية فتخلص إلى الدماغ، وجعل داخل بابي البصر مادة مالحة الطعم؛ لئلا تذيب الحرارة الدائمة ما هنالك من الشحم، وجعل داخل باب الطعام والشراب حلوَ اللُّعاب؛ ليسيغ به ما يأكله ويشربه، فلا يتنغص به الطعام والشراب، فسبحان الله الخالق البارئ المصور، وصدق الله إذ يقول:

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21]

ثم تأمل -أخي- شكل الأنف وخِلْقته، وكيف نصبه -سبحانه- في وسط الوجه، وفتح فيه منفذين، ليستغني الإنسان عن فتح فمه في التنفس بالمنخرين، وجعل بينهما حاجزًا حتى كأنهما في حكم الأنفين، فيكونان بمنزلة العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين.

أيها المؤمنون: كل هذه معجزات وآيات في خلق البارئ سبحانه لمخلوقاته، فالله تبارك وتعالى هو الخالق البارئ المصور، الذي خلق الخلق، وصوَّرهم على صور مختلفة، وهيئات متباينة، من الطول والقِصر، والحسن والجمال، والذكورة والأنوثة، والشكل واللون، كل واحد ميَّزه ربه بصورة خاصة، يتميز بها عن غيره من المخلوقات، فلكل مخلوق طبعة خاصة، وصورة مستقلة، وسبحان المصور إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون على الصورة التي يختار، والصفة التي يريد، وبرأ خلقه على الأشكال والهيئات التي توافق تقديره وعلمه، ورحمته وحكمته، والتي تتناسب مع مصالح الخلق ومنافعهم، فسبحان الخالق البارئ المصور، الذي خلق المخلوقات، وصوّر الكائنات، وأحسن كل شيء خلقه.

وسبحان البارئ الملك الذي له الملك كله، فلا يخرج مخلوق عن ملكه، وله الحمد كله: حمد على ما له من صفات الكمال والجلال والجمال، وحمد على ما أوجده من الأشياء، وأحسن خلْقَها، وحمد على ما شرعه من الأحكام، وأسداه من النعم العظام. وتبارك الخالق البارئ المصور، الذي خلق السموات والأرض وما فيهما، فأحسن خلقهما، وخلق الإنسان في أحسن صورة، وأكمل هيئة، وأحسن تقويم، جل ربنا وتعالى.

أيها المسلمون: لقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه البارئ، قال تعالى:

(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الحشر: 24]

قال الطاهر ابن عاشور: "الْخَالِقُ عَامٌّ، وَالْبَارِئُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَالْمُصَوِّرُ أَخَصُّ مِنَ الْأَخَصِّ". [التحرير والتنوير (28 / 124)].

وتفرد ربنا البارئ -سبحانه- بتنفيذ وإبراز ما قدّره وقرَّره إلى الوجود، وليس كل من قدَّر شيئًا ورتّبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل، فالله -سبحانه- له قدرة تُمضِي وتنفّذ، وغيره يقدّر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها، فسبحان البارئ الذي برأ الخلق فأوجدهم، وخلقهم بقدرته، وفضّل بعض الخلق على بعض، وأبدع الماء والتراب، والهواء والنار لا من شيء، ثم خلق الإنسان من تراب، وجعل من الماء كل شيء حي.

قال تعالى:

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 54]

ينادي كليم الله موسى قومه أن يتوبوا إلى الذي خلقهم من العدم، وأعطاهم من النعم وأسبغ عليهم نعمه ومننه وأفضاله، توبوا إليه وعودوا إليه، فسبحان الخالق البارئ:

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة: 7]

وقد أثنى نبينا -صلى الله عليه وسلم- على ربه -تبارك وتعالى-، وأحسن عليه الثناء، ووصفه بأنه الذي برأ كل الموجودات، وخلقهم، وملكهم، فعن أَبي التَّيَّاحِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَنْبَشٍ التيمي -رضي الله عنه-: كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ قَالَ: جَاءَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْأَوْدِيَةِ، وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجِبَالِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ؛ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: فَرُعِبَ، -قَالَ جَعْفَرٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ: جَعَلَ يَتَأَخَّرُ- قَالَ: وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ قُلْ، قَالَ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ، فَطَفِئَتْ نَارُ الشَّيَاطِينِ، وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ -تبارك وتعالى-" [أخرجه أحمد (15461)، وحسّنه الألباني في صحيح الترغيب (1602)]. قال الملا علي القاري: قوله: (وَذَرَأَ) بِالْهَمْزِ أَيْ بَثَّ وَنَشَرَ، (وَبَرَأَ) أَيْ أوجد مُبَرَّأً عَنِ التَّفَاوُتِ، فَخَلَقَ كُلَّ عُضْوٍ عَلَى مَا يَنْبَغِي، قَالَ تَعَالَى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)[الملك: 3] [مرقاة المفاتيح 5/ 1718].

أيها المسلمون: والبارئ لغةً يدل على الخلق والإيجاد على غير مثال سابق، وخلوص الشيء من غيره. والبارئ -سبحانه- هو المنفرد بخلق جميع المخلوقات، المبدع للأشياء على غير مثال سابق، برأ بحكمته جميع البريات، وصوّر بإحكامه وحسن خَلْقه جميع الكائنات، فخَلَقها وأبدعها، وفطرها في الوقت المناسب لها، فأبرزها للوجود من العدم، وقدّر خلقها وأحسن تقديرها على غير مثال سابق، وصنعها أتقن صنع، وهداها لمصالحها، وأعطى كل شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كل مخلوق لما هُيِّئَ وخُلِق له. والمبرز لها من العدم إلى الوجود، وفصل كل جنس عن الآخر، وصوّر كل مخلوق بما يناسب الغاية من خلقه.

والبارئ -سبحانه- هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت والتناقض، سليمًا من التباين والاعوجاج، فخلقه -سبحانه- كله مستوٍ مستقيم، محكَم متقَن، دالّ على كمال قدرة خالقه وعظمته، قال تعالى:

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) [الملك: 3]

فهو الذي يبرئ جوهر المخلوقات من الآفات، وهو مُوجِد الأشياء بريئة من التفاوت وعدم التناسق، وهو مُعطي كل مخلوق صفته التي علّمها له في الأزل، وبعض العلماء يقول: إن اسم البارئ يُدْعَى به للسلامة من الآفات، وأن مَن أكثرَ مِن ذِكْره نالَ السلامةَ من المكروه.

واعلموا -عباد الله- أن أسماء ربنا -سبحانه- الثلاثة (الخالق والبارئ والمصور) أسماء متلازمة متآلفة في غايتها، تجمع بينها العلاقة المترابطة في عملية الخلق؛ خلقًا وبرءًا وتصويرًا؛ فالله -عز وجل- هو الذي أعطى كل شيء صورته، ليس معنى الصورة الشكل الخارجي بل القَوام الكامل.

فإذا كان اسم الله الخالق يعني: هو الموجد الذي يَدين له كلُّ ما في الكون بالوجود، وهو خالق جميع المخلوقات والناس جميعًا من ذريَّة آدم عليه السلام الَّذي نفخ فيه من روحه، فكان من نسله كلُّ الناس الَّذين تفرَّقوا في الأرض أجناسًا، وتشعَّبوا عروقًا وألوانًا.

فإن اسم البارئ هو اسم مرتبط باسم الخالق؛ لأن الخلق والبرء صفتان متصلتان والفارق بينهما يسير ودقيق. فإذا كان الخَلق هو التصميم والتقدير، فإن البرء هو التنفيذ والإخراج.  وإذا قلنا: إن الله -عز وجل- خلق الإنسان، فمعنى ذلك أنه استحدثه وأوجده من العدم المطلق، وإذا قلنا: برأ الله الإنسان، فمعنى ذلك أنه استحدثه وأوجده من العدم المطلق في خِلْقَة تناسب المهمة والغاية التي خُلق من أجلها.

فالخالق قد يخلق الشيء مناسبًا أو غير مناسب، أما البارئ فلا يخلق الشيء إلا مناسبًا للغاية التي أرادها من خلقه، ويؤخذ ذلك من قوله تعالى:

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) [التين: 4، 5]

فلو كان فعل الخلق يشير إلى درجة الخلق من الحسن أو القبح لما أضاف المولى -عز وجل- عبارة في أحسن تقويم، ولو كان اسم الله -عز وجل- البارئ مرادفًا مرادفة تامة لاسمه الخالق لما قال -تبارك وتعالى-:

(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر: 24]

ففرّق بينهما -سبحانه- وقد وردا في سياق واحد.

وإذا تأملنا –عباد الله- الكون المحيط بنا سنلاحظ أن الله -عز وجل- قد خلق كل شيء صالحًا لمهمته، مناسبًا للغاية من خلقه، ومتوائمًا مع المحيط الذي وُضع فيه. فالإنسان خُلق ليكون خليفة الله -عز وجل- على الأرض، وليكون عارفًا بالله، عابدًا له، متأملاً في ملكوته؛ لذلك برأه في خِلْقَة تناسب جلال الغاية، فبرأه في أحس تقويم. أي أحسن خِلْقة، فجعله أحسن المخلوقات من حيث التركيب، ومن حيث الشكل، مألوفًا من سائر الكائنات الحية، ومكَّنه مما يساعده على الحياة.

واعلموا –رحمني الله وإياكم- أن البارئ -سبحانه- هو الموجد المبدع، برأ الخلق وميَّز بعضهم عن بعض، فهذا أبيض وهذا أسود، هذا عربي وهذا أعجمي.. طويل وقصير، وهكذا، وهو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت، قال -سبحانه-:

(مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ) [الملك: 3]

أي: خلقهم خلقًا مستويًا ليس فيه اختلاف ولا تنافر، ولا نقص ولا عيب ولا خلل، فهم أبرياء من ذلك كله.

فسبحان مَن لا تسعد النفوس إلا بمعرفته، ولا تطمئن القلوب إلا بذكره، ولا تسكن الأرواح إلا إليه، ولا يُحَب لذاته سواه، فأحبوا البارئ -سبحانه-، خلقكم فأحسن صوركم وبرأكم في أجمل الأشكال، واعبدوه واشكروا له، وسبحوا بحمده.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم وأتوب إلى البارئ الكريم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى وهو العزيز الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى إخوانه وآله، ورضي عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فهي التجارة التي لا تبور، وأحثكم على مراقبته، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فاعبدوا ربكم وأخلصوا له في الأعمال والأقوال، وادعوه مخلصين له الدين.

واعلموا -عباد الله- أنه ينبغي للعبد أن يدعو الله بأسمائه الحسنى، ويثني على ربه بجميل الصفات وكمال النعوت، فيدعو ربه باسمه تعالى "البارئ"، ويتعبد لربه ويتخلق باسم الله البارئ، ويراعي ربه في سلوكه، فيبرأ إلى الله من كل شهوة تخالف أمره، ومن كل شبهة تخالف خبره، ومن كل ولاء لغير دينه وشرعه، ومن كل بدعة تخالف سنة نبيه، ومن كل معصية تؤثر على محبة الله وقربه، ورضاه -سبحانه- عن عبده. كما يجب على العبد أن يتقي الله -عز وجل- في عمله، فيخلص فيه، ويتقنه ما استطاع؛ ليظهر جمال الصنعة؛ توحيدًا لمن برأ وخلق -سبحانه-، وعلّمه ما لم يكن يعلم، ومنحه قوة على التفكير والإبداع.

أيها المسلمون: ومن الأمور التي يحسن بالعبد الموفق في تعبده لربه البارئ أن يلتفت إليها: أن يعمل العبد على تزكية نفسه، وتنزيهها وتبرئتها من العيوب ما أمكن، وهي قضية أساسية في حياة المؤمن، وقد كانت هي مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- الأولى قال الله تعالى:

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة: 2]

وضمن الله الفلاح لمن قام على تزكية نفسه، فقال:

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9، 10]

قال السعدي: "أي: طهّر نفسه من الذنوب، ونقّاها من العيوب، ورقاها بطاعة الله، وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح".

كما يحرص العبد الموفق على التماس العذر للآخرين، وإقالة عثرتهم، ومغفرة زلتهم، حتى يكون معذورًا عند الله -سبحانه- وتعالى، فيجازيه ويعامله بما عامل به غيرَه، والجزاء من جنس العمل.

وعلى المسلم أن يذل للبارئ، وينكسر بين يديه، ويعرف حقيقة نفسه، وأصل خِلقته، فلا يتكبر على الناس، ولا يُعجب بنفسه ويغتر بما وهبه الله، وقد خاطب مطرف بن عبد الله بن الشخير -رحمه الله- المهلبَ بنَ أبي صفرة -الوالي- عندما رآه يتبختر مرتديًا الحرير، فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى؟ فقال له : أتعرفني؟ -وسبحان الله! فهذه كلمة كل معجب بنفسه، متكبر على غيره، يقول له: هل تعرف مع من تتحدث؟!!- فقال له المهلب: أتعرفني؟ قال: "نعم إن أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العَذِرَة" [الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/180].

وإذا علم العبد منا نفسه، وأصل خلقته، تواضع للبارئ -سبحانه-، ونسب الفضل كله إليه، قال البارئ تقدست أسماؤه:

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [المرسلات: 20]

وقال جل ثناؤه:

(قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) [عبس: 17 - 19]

فالبارئ -سبحانه- خلق من أضعف الأشياء وأقلها أجمل الصور وأعظمها، فلا يغتر إنسان بالظاهر وينسى الأصل، بل عليه أن يعرف أن الذي جمَّله وصوَّره وأبدعه هو بارئ البرايا البارئ، -سبحانه- وتعالى و-عز وجل-.

وعلى المسلم الصادق أن يبرأ إلى الله -عز وجل- من كل شرع لم يرضَ الله عنه، ومن تحكيم غيره، ويبرأ في خاصة نفسه من كل شهوة تخالف أمر ربه، أو شبهة تخالف ما ثبت عن الله ورسوله، ويبرأ من كل بدعة في الدين تخالف هدي النبي عليه الصلاة والسلام، ومن كل معصيةٍ تبعده عن محبة الله له ورسوله.

ويلزمك -يا عبد الله- التبرؤ من الكافرين، والحذر من سلوك طريقهم. وتمثل قول إبراهيم الخليل عليه السلام:

(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ..) [الممتحنة:4]

وضع نصب عينك أخي أمر ربك لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام:19]، وكذا قول الله تعالى:

(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 114]

وعلمتنا السنة كيف نبرأ من المعاصي، فعن صفوان بن محرز -رضي الله عنه- أنه قال: "

أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى، فَبَكَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ كَمَا بَرِئَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ، وَلَا خَرَقَ، وَلَا سَلَقَ" [صحيح ابن ماجه (1586)]

أي: الصراخ والعويل، وشق الملابس، وما يكون على الميت من تقَوُّلٍ على القدر، ونحو هذا مما لا يجوز ولا يصح.

وعن أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ:

"إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ". أَيْ: مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ يسلم وينجو. [مسلم (4907)]

وهذا في شأن التبرؤ من المنكر، فأقل درجاته أن يكره المنكر بقلبه ولا يرضاه. وسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- عمن رضي وتابع، كناية عن شدة حاله.

واعلموا -إخوة الإسلام- أن العبد الموفق يجب أن يكون متقنًا لعمله محسنًا فيه، فإذا كان الله -عز وجل- قد برأ الخلق وأوجدهم على هذه الهيئة المبدعة المذهلة لا على مثالٍ سابق، فحاطها بالإتقان والجودة، فأقل حق منك أن تكون متقنًا محسنًا فيما تستطيع عمله. فقد روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ" [صحيح الجامع (1880)]، وهذا من شيم المؤمنين، وقوله يتقنه أي: يحكمه؛ وذلك لأنّ الإمداد الإلهي ينزل على العامل بحسب عمله، فكل من كان عمله أتقن وأكمل فالحسنات تُضاعف أكثر، وإذا أكثر العبد أحبه الله تعالى.

فاحرصوا -عباد الله- على محبة البارئ -سبحانه-، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، جنبني الله وإياكم مضلات الفتن، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأسأل الله أن يسعدنا بتقواه، وأن يجعل خير أيامنا وأسعد لحظاتنا يوم أن نلقاه.

 

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ اسم الله (البارئ)

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day