الحديث الخامس والثلاثون حديث الفَيْضِ


محمد حسين ال يعقوب

- قال البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْضُ - أَوْ: الْقَبْضُ - يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ".

 

الحكم على الحديث

متفق عليه؛ صحيح البخاري (7419)، صحيح مسلم (993) 

أهمية الحديث

1- معرفة الله سبحانه وتعالى بصفات الذات ليحصل يقين القلب بوجود الرب جل جلاله

2- حصول اليقين في القلب بغنى الرب سبحانه وسعة عطائه

3- تعلق القلب بالله وقطع النظر إلى الأسباب في العطاء والمنع، والرفع والخفض

 

غريب الحديث

1- لا يغيضها: لا ينقصها

2- سحاء: السح: الصب الدائم والسيلان؛ كأنها لامتلائها بالعطاء تسيل أبداً في الليل والنهار

3- الفيض: انصباب عن امتلاء، يدل على سعة العطاء

4- القبض: ضد البسط، وهو أليق لمقابله الإعطاء

 

فوائد الحديث

1- الرباني لكي يتعلق قلبه بالله فلابد له من معرفة تامة بربه سبحانه وتعالى

وهذا المطلب هو الفائدة الحقيقة المقصودة من دراسة العقيدة؛ أن يعرف الرباني ربه سبحانه بالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة وبفهم السلف رضوان الله عليهم. 

2- هذا الحديث من أحاديث الصفات، وهو من الأحاديث الجميلة الجليلة التي تأخذ بقلب المسلم 

3- ويأتي هذا الحديث بعد حديث الغنى ليطمئن قلب الرباني إلى غنى الله عز وجل وكرمه وفضله وعظيم منتِه وفيض عطائه، فيكون غنياً بالله وحده سبحانه 

4- "إن يمين الله ملأى". أن تثبت لله يميناً، وأنها ملأى لا تنقص، وينفق ويعطي بها سبحانه ليل نهار، إثبات ذلك كله دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تكييف أو تمثيل يملأ قلب الرباني رضا وبهجة وراحة وطمأنينة وسعادة وفرحاً بربه العظيم. 

5- فرح القلب بمعرفة الله بالآيات المحكمات والأحاديث الصحيحات فرحة عظيمة؛ فإنها تزيد الإيمان وتثبت اليقين وتحمل على القرب من الله عز وجل ومحبته والشوق إلى لقائه 

6- "لا غيضها نفقة". تدفع المؤمن للطمع فيما عند الله، فينقطع طمعه في المخلوقين ويتعلق قلبه بيمين الرحمن وما فيها، ويطمئن قلبه أن ما عند الله لا ينقص ولا ينفد ولا ينقطع، فما عند الناس ما يزال في يد الله منه الكثير. 

7- "سحاء الليل والنهار". سبحان الملك الكريم! سبحانه! عطاؤه لا ينقطع، جوده عميم، وفضله عظيم، وكره واسع، يرزق من يشاء بغير حساب، ويضاعف لمن يشاء بغير حساب، يفيض على عباده الخير ليل نهار، لا ينقطع خيره، ولا يزول ملكه، ولا ينقص ما في يده، بل يعطي ويمنع؛ قال سبحانه في الحديث القدسي: "

يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ" (1).

فالكل فقير محتاج، والله هو الغني الحميد، سبحانه، كريم يبذل ويعطي الكثير وأكثر مما يتمناه المرء؛

قال تعالى: {وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ۗ } [إبراهيم:34] 

8- اعتقادك أن ما في يمين الله لم ينقص يملأ قلبك غنى به سبحانه، ورضا به سبحانه، وطمعاً فيما عنده سبحانه، فعنده كل شيء، بيده مقاليد كل شيء؛

{وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٍۢ مَّعْلُومٍۢ } [الحجر: 21].

 

فعنده الخير كله، فقط اطلب وأحسن الظن وألح في الدعاء يعطك ما طلبت وزيادة؛  

{يَسْـَٔلُهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍۢ} [الرحمن: 29]

9- إذا كانت القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، ويمين الله ملأى، سحاء، فالقلوب التي رضيت بالله واستشعرت الغنى به واطمأنت أنها في هذه اليد الكريمة المعطاءة الملآنة تكون غنية شبعة حتماً لا تميل إلى شيء من الدنيا أو تشتهيه أبداً، ولا تلتفت ولا تنفلت عن يد الله أبداً.

______________________

أخرجه مسلم (2577).

 

10- خزائن جوده سبحانه سحاء الليل والنهار، دائمة العطاء والبذل لا ينقصها شيء، ولا يفنيها عطاء، وإن جل وعظم؛ لأن عطاءه سبحانه جل جلاله بين الكاف والنون؛

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40].

 

11- بابه الكريم مناخ الآمال، ومحل الأنظار، وموئل العطايا، سماء عطائه لا تقلع عن الغيث بل هي مدرار، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، إن ربنا لغفور شكور. 

12- "وبيده الأخرى الفيض - أو: القيض - يرفع ويخفض" سبحان الملك! سبحان ربنا العظيم القدوس السلام! تباركت وتعاليت. 

أيها الرباني، ما زال قلبك في قبضة الرحمن جل وعلا، قد امتلأ قلبك يقيناً بعظمته وبرحمته وبلطفه وبغناه وبكرمه سبحانه، ثم جل جلاله بيده الأخرى القسط - وهو العدل المطلق - يرفع ويخفض سبحانه، يعز ويذل، يعطي ويمنع، يرفع ويضع، فيظل قلبك حال تقلب القلوب هو مستسلم منطرح بين يدي الله، غني بالله، مليء بالله، فلا يبالي رفع الناي وخفضهم، هو مشغول متعلق بيد الله التي ترفع وتخفض. 

13- ينبغي للسائل إكثار المسألة؛ ثقة بالله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تمنى أحدكم فليكثر؛ فإنما يسأل ربه عز وجل" (1). 

اللهم أكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا وآثرنا ولا تؤثر علينا

______________________

أخرجه الطبراني في الأوسط (2040). وقال الألباني: صحيح. صحيح الجامع (438)

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الحديث الخامس والثلاثون حديث الفَيْضِ

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day